إشكالية الوعي ووعي الجماهير قضية أزلية ومعركة مستمرة في كل زمان ومكان، وإن كان الهدف الجوهري من جميع معاركه تتمحور حول كسب هذ الوعي أو تغييره أو تزيفيه أو جعله وعيًا معلبًا أو متخلفًا، أو تعبئته حول قضايا معينة لكسب قضايا أكثر أهمية في الأجندة السياسية والاقتصادية. ومن المفاهيم التي استهدفت الوعي للشعب الفلسطيني هي تلك التي أطلقها الجنرال موشيه يعلون وزير دفاع، ورئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي إبان الانتفاضة الثانية، وهي «كي الوعي»، فقد تحول هذا المصطلح إلى سياسة رسمية جوهرها معركة «هزيمة وعي الشعب الفلسطيني»، وجعله يرضخ ويعترف بالهزيمة، وبالحقوق التي تفرض عليه من القوة الأكثر وحشية وجرائم في هذا العصر، فقد استخدم هذا المفهوم ودعم بسياسات متنوعة من إعلامية وتعليمية وحربية وقرارات أممية، وحشد تأييد ورسم سياسة لفرض واقع جديد في عقلية الشعب الفلسطيني وفي نفسيته، لخلق شخصية منهزمة ممكن تكوينها وتحريكها حسب السياسات الإسرائيلية، حتى يعترف بالمخططات التي ترسم له وينقاد طوعيًا لها باعتبارها الملاذ الآمن من التطهير العرقي والإبادة الجماعية على نحو ما حصل في غزة. إن السياسة التي يمارسها الكيان الإسرائيلي هي أشبه بتلك السياسة التي مارسها الغزاة الأمريكيون على السكان الأصليين «الهنود الحمر» في القارة الأمريكية، بل إن الدولة الأمريكية في ذلك الوقت راهنت على إبادة لغتهم وثقافتهم ومعتقداتهم الروحية، واليوم يُطلق على مثل هذه الممارسات مصطلح الإبادة العرقي، فمثل هذه البرامج تعتبر نمطية بالنسبة للاستعمار الذي اصطبغ بالطابع الاستيطاني، والذي يُمكن مُعاينته أيضًا في كل من أستراليا وكندا، حيث يبدو الأمر في أوله أن يصل المستوطنون إلى منطقة ما، ولا يحتاجون سوى إلى مساحة محدودة من الأرض، فيبدأ السكان الأصليون في النزوح قليلاً، ويتعايش الجميع، ولكن في وقت ما يبدأ المستوطنون في استخدام الأرض، ويصبح السكان الأصليون فجأة عائقًا، وهنا تظهر إمكانيتان: إما الإبادة أو إعادة الوعي وصهره في مجتمعهم». إن ما يمارسه هذا الكيان المتوحش بتذويب القضية الفلسطينية، وخفض أهميتها ليس لدى الفلسطينيين فحسب بل العرب والمسلمين على وجه العموم، يعتبر نوعًا من الحمق السياسي والعبث التاريخي والفوضى السياسية، وذلك من خلال العمل على بناء تحالفات تجارية وسياسية وطموحات كبيرة من الدول العربية من جانب، وإزهاق أرواح مدنيين من الجانب الآخر باعتبارها قضايا منفصلة أخرى، وعلى الرغم من استهداف سياسة «كي الوعي»، ومحاولة القضاء على ثقافة المقاومة بجميع عناصرها وأفكارها باعتبارها الركن أو العثرة التي يمكن أن تقف حجر عثرة في مشروعهم الاستيطاني التوسعي، فإن أساليب الحرب والإبادة أثبتت فشلها، فقد كانت سببًا في إنعاش الوعي بالقضية الفلسطينية، ليس على مستوى الشعب الفلسطيني فحسب، وإنما على مستوى الوعي العالمي، وأصبحت المجتمعات الغربية منقسمة ومؤيدة للحق الفلسطيني، فهذه الحرب كم أسلفنا أنعشت الوعي وصححت مفاهيم، وحطمت تصورات لدى العقلية الإسرائيلية والغربية على حد سواء، إن هذه الحرب لا بد أن تعيد تموضع الشعب العربي والقضية الفلسطينية في الوعي بخصوصية هذه القضية، وجلب كل محركات الوعي وإنعاشه بشكل دائم لطمس المشروع الإسرائيلي. نقلا عن الوطن السعودية