أحدثكم اليوم عن المرض المزمن الذي أصيبت به جامعاتنا المحلية، كلها بلا استثناء، وهو في واقع الأمر مرض قتال، يقتل الطموح ويفتك بالطاقات البشرية ويستنفد الأموال ويعرقل كل حركة للنمو ويمنعها من التطور في الاتجاه الصحيح، وفي المقابل هو يمنح الفاسدين بيئة جيدة للبقاء والتكاثر والانتشار، وينمي في ذواتهم حب التسلط والسيطرة، ويعزز فيهم الأنانية والتفاهة، والمحصلة جامعات عليلة وبرامج هشة وضعيفة ومخرجات لا ترقى لمستوى الطموحات الوطنية الكبرى. ويمكن توصيف هذا المرض على أنه خلل في أجزاء رئيسية ثلاثة؛ البناء الإداري، فهم الأنظمة، والرؤية والتخطيط، فلو نظرنا أولا إلى الهياكل الإدارية الأكاديمية لوجدناها مختلة بنائيا، فهي في وضعها الحالي إدارات هرمية تقليدية، وبالتالي حاضنة جيدة للبيروقراطية، والقرارات فيها مركزية، وكذلك خلق الرؤى والتصورات، ولكن ليست هذه مكامن الإصابة وحدها، فهناك خطر أكبر يتمثل في انحراف الأكاديمي عن مساره الطبيعي إلى مسار إداري لا علاقة له به إطلاقا، وعلى حد علمي أن هذا الانحراف أو التحول الغريب لا يحدث إلا في جامعاتنا فقط، والسبب يرجع للبناء والتوظيف غير الصحيحين للهياكل الإدارية. فعلى سبيل المثال رئيس القسم يفرغ من عمله الأكاديمي بشكل كامل للقيام بأعمال إدارية روتينية لا ناقة له فيها ولا جمل، وهذا الانحراف الذي نتحدث عنه يخلق حالة من التضخم لا توجد إلا في جامعاتنا، وحول هذا الرئيس يتواجد في مكتبه من ثلاثة موظفين إلى خمسة يتناوبون على عمل واحد تحت قاعدة «سلم واستلم»، وكذلك حال مكتب العميد وعمداء العمادات المساندة والوكلاء، وكلها ظلمات بعضها فوق بعض! في أمريكا وبريطانيا رئيس القسم لا يستغرق وقته كله أو جزءا منه في أمور إدارية اعتيادية، بل يكون هذا النوع من الأعباء الإدارية ضمن مهام الإداريين في القسم كل حسب عمله المخصص له، ويتفرغ هو لعمله الأصلي في البحث والتدريس، والتخطيط لتطوير القسم واجتذاب الطلاب والداعمين واستقطاب أبرز الأساتذة، وهكذا، منصب الرئيس هناك ليس منصبا تشريفيا ولا هو منصب تصريف أعمال إدارية، الرئيس هناك أستاذ حاله حال غيره من الأساتذة إلا أنه يرسم السياسات ويتابع تنفيذها. أما تفسير الأنظمة وتأويلها وإيجاد مخارج للانحراف عن مقاصدها الأصلية فهذه مهمة لا يتفوق على جامعاتنا فيها أحد، ففي جامعة الملك عبدالعزيز يفرغ المستشار المعين لدى أي وكيل للجامعة بقرار من الوكيل نفسه، وبدل أن يخصص لرئيس القسم ثلاث وحدات مقابل عمله الإداري يحدث العكس، ومع مرور الوقت يتفرغ كليا للعمل الروتيني ويكلف غيره من المتعاقدين للقيام بالبحث والتدريس نيابة عنه إلا في الاسم، فأي عقلية إدارية منافسة يتحدث عنها هؤلاء! بهذه العقليات التي دائما تؤول الأنظمة وتفسرها حسب مصالحها يحدث التضخم، وبها تستنفد الأموال في غير وجهها الصحيح، وبها يعطل التخطيط والإبداع والابتكار، إننا نمرض أنفسنا بأنفسنا، وإننا بالسكوت والرضا على مثل هذه الممارسات وإن بدت للبعض بسيطة وغير ذات أهمية نخلط بين الأولويات والمهام، وبين الطموحات والأحلام، ونؤسس للفساد الإداري والأكاديمي، وهنا الكارثة الحقيقية! صدقوني لولا هذا الخلل الذي نتحدث عنه لما وجدنا باحثين ينشرون في اليوم الواحد أربعة أبحاث علمية رصينة وهم مكلفون بأعمال إدارية جسيمة، ولا يعلمون ماذا ينشرون أصلا، هذا التناقض غير المنطقي لوحده مرض، وليس إبداعا أو إنجازا يدعونا للفخر، بل يدعونا للتحقيق والمساءلة، فهل نعي حجم الكارثة والهاوية التي تقودنا إليها الإدارات الجامعية الحالية! وهل تدرك الوزارة دورها وتتحرك! نقلا عن صحيفة مكة