يمكن اعتبار الحكم المطلق لرجل الدين هو الأرضية التي تجمع شعث الاختلاف العقدي بين نظرتي الحاكمية السنية وولاية الفقيه الشيعية، إذ إن الحاكمية تقضي بتولية الثلة المؤمنة حكَم الدنيا والدين نيابة عن الله، وفي الوقت ذاته، تقرر ولاية الفقيه إطلاق يد الفقيه في حكم الدنيا والدين، باسم الإمام الغائب والمعصوم، والذين يستندون على ثبوت توليه الأمر والولاية بالضرورة العقلية والشرعية. وجاءت نظرية ولاية الفقيه كرد فعل على ألف سنة تقريبا عاشها الشيعة الاثنا عشرية في مقاطعة تامة للسلطة. فبعد غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، والذي غاب غيبته الكبرى في عام 329ه، أفتى كبار علماء الشيعة بحرمة العمل السياسي، والثورة، وإقامة الحكومة؛ باعتبارها من مهام الإمام الغائب، إضافة إلى الفتاوى القديمة التي تحرم التعاون مع السلطة باعتبارها غاصبة لحقوق الإمام، والإفتاء بحرمة «الجهاد» وتنفيذ الحدود وجمع أموال الزكاة، بل حتى إقامة صلاة الجمعة؛ لأنها مهام تتوقف على وجود الإمام المعصوم «نظرية الانتظار». لكن مع طول غيبة المهدي، والحاجة الملحة للخروج من نظرية الانتظار تلك، بدأ بعض علماء الشيعة، بناء على أحاديث ومرويات عن أئمتهم، في التأصيل لإمكانية تصدي الفقيه المجتهد الجامع للشروط المعتبرة في كفاءته وكفايته، لأموِر الدولة، فظهر ما ُسمي ب«النيابة العامة» للفقيه عن الإمام الغائب على يد الشيخ أحمد بن مهدي النراقي (ت: 1829 (والتي تحولت فيما بعد وتطورت إلى نظرية «ولاية الفقيه» بشكلها الذي جاء على يد الخميني، ففي كتابه «عوائد الأيام»، دعا النراقي الفقهاء إلى تولي زمام الأمور، واعتبر أن للفقيه ما للإمام من ولاية عامة وصلاحيات دينية وسياسية. وبعد 150 عاما من وفاة النراقي، جاءت «الثورة الإسلامية» في إيران على يد الخميني لتمثل أول تطبيق عملي لولاية الفقيه. غير أن الخميني جعل ولاية الفقيه- بعد دمجها مع نظرية النيابة العامة للفقيه- ولايًة مطلقة للفقيه، لا ولاية عامة أو نيابة عامة فحسب، إذ جعل ولاية الفقيه العالم العادل كولاية الرسول- صلى الله عليه وسلم- في حياته، ومن هنا هيمن الولي الفقيه، من خلال ولاية الفقيه على السلطة الدنيوية والدينية، في إيران، رغم وجود رئيس للبلاد وبرلمان منتخب ومجلس للشورى. وعلى الرغم من أن منطلقات الحاكمية في الأساس سنية، فإن ثمة ظرفا تاريخا مهما جعل نظرية الحاكمية تتسرب إلى الفكر الشيعي عبر مؤسس «فدائيان إسلام»، تأسست عام 1945 ،الشيعي نواب الصفوي، والذي أعدم في عام 1956 ،بسبب محاولة لاغتيال رئيس الوزراء الإيراني، آنذاك. ولا أظن أن نواب الصفوي، قد نقل نظرية الحاكمية السنية إلى الفكر الشيعي؛ إذ إن أول بروز عربي للنظرية كان على يد سيد قطب في عام 1962 في الطبعة الثالثة لتفسيره «في ظلال القرآن»؛ أي بعد وفاة نواب صفوي بعدة سنوات، غير أن نواب صفوي ألهم أبرز قيادات الثورة الإيرانية كالخميني، الذي بدأ تحركه السياسي بعد عام 1961 تقريًبا، وخامنئي الذي حرص على ترجمِة كتب سيد قطب، وكل هذا بتأثير من نواب الصفوي القائل في دمشق عام 1954» :من أراد أن يكون جعفريً ا حقيقًيا فلينضم إلى صفوف الإخوان المسلمين»، وهو العام ذاته الذي التقى فيه سيد قطب، الرئيس الحركي لجماعة الإخوان حينها. وقد اعترض الكثير من علماء الشريعة على مصطلح «الحاكمية»؛ كونه لم يرد في أي من كتب أصول الدين قديما، بل بمسح بسيط لكل كتب التراث السياسي الإسلامي، خلال القرون العشرة الأولى، سواء ما تعلق منها بالأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية، لا نجد كتابا واحدا احتوى على مفردة الحاكمية، هذا المفهوم الحديث والمنحوت من قبل سيد قطب، في تعريبه للمودودي، والذي طارت به مختلف الأصوليات الراديكالية المعاصرة، سنية وشيعية، على السواء. وضع المودودي مصطلحي «الحاكمية» و«الجاهلية» كمصطلحين متقابلين متنافرين، إذا تحقق أحدهما انتفى الآخر، وجعل حاكمية الله لا تكون إلا في يد الفئة المؤمنة، كما قرر ذلك سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق»، وفي تفسيره «في ظلال القرآن». ولا نحتاج إلى كبير مشقة لنرى أن «ولاية الفقيه» عمدت إلى السيطرة على أمر الدنيا والدين، بإقامة إمامة معصومة بحجة «نيابة الإمام الغائب» بكل صلاحياته، والأمر نفسه حصل مع «الحاكمية» التي سعت إلى السيطرة على أمر الدنيا والدين بحجة إقامة «حكم الله في الأرض»، والفارق أن «ولاية الفقيه» استطاعت الاستيلاء على دولة كبيرة وغنية، واتخذتها منصة للانطلاق وكسب الأتباع ومناطق النفوذ، إما بالاستقطاب أو السيطرة باستخدام كل أدوات الإغراء والترغيب والإرهاب والحروب، وهذا ما نشاهده في عدة دول عربية وأفريقية وآسيوية، وسارت «الحاكمية» عبر تطبيقات كالقاعدة، والنصرة وداعش على نفس الخط في محاولة الاستيلاء على مناطق تنطلق منها، تمويلا وقدرات، حيث يبايعون «خليفة»، وإن لم يدعوا عصمته صراحة، فهو كالمعصوم مطلق الصلاحيات، وينفذون أحكاما باسم الشريعة، ويمارسون كل أنواع الإرهاب والحروب، ضد المسلمين وغير المسلمين. والواضح- بما لا يدع مجالا للشك- تماثل النظريتين؛ نهجا وتوجها وأهدافا، ووسائل وأدوات وممارسات ونتائج كارثية، يجلبانها على العالم. لذلك، فإن الصراع حقيقة- رغم الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة- هو بين كل المذاهب الإسلامية، المعترف بها، من جهة، وإرهاب «الحاكمية» و«ولاية الفقه»، من جهة أخرى نقلا عن الوطن