أصبحت الرأسمالية المطلقة، والتي لا ضوابط عليها، كما نادى بها «آدم سميث» و«ديفيد ريكاردو» وغيرهما، فيالقرن السابع عشر، أصبحت منذ قرنين -تقريبا- من ذكريات الماضي. أما الرأسمالية التي تسود في الوقت الحاضر،في معظم أنحاء العالم -وبخاصة في أمريكا- فهي ليست مطلقة، ولا يمكن أن تكون كذلك.. حيث لا ضوابط على«الحرية الفردية».. ولا قيود على حرية وتحركات القطاع الخاص. رأسمالية الحاضر (ذات الضوابط) تهدف إلى: توفيرمناخ الحرية الاقتصادية للأفراد.. ولكن في إطار خدمة المصلحة العامة للمجتمع المعني أيضا. وذلك يقتضي وجودالضوابط والقيود، المشار إليها، والتي تأتي في هيئة «تدخل» حكومي معين، بصوره المختلفة. ومن المستغرب أن نسمع أحيانا أصواتا تدعو إلى إلغاء كافة الضوابط أمام القطاع الخاص.. متناسية أن الرأسماليةإن تحولت إلى مطلقة -أي محررة تماما من كل الضوابط والالتزامات- فستكون شرا مستطيرا.. وسينتج عنها كوارثاقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية هائلة.. ناجمة عن انقسام كل مجتمع إلى فئتين متناقضتين رئيستين(متصارعتين): فئة بالغة الثراء والنفوذ والتسلط، وفئة معدمة ومستغلة. وذلك مع ضعف، أو انعدام وجود طبقةوسطى فاعلة. مما يؤدي غالبا إلى سيادة عدم الاستقرار السياسي في المجتمع الذي يبتلى بهذا الوضع. وهذاأمر لا يقبله منطق سليم، ولا يستسيغه إنسان سوي، ولا يرتضيه بشر عاقل لغالبية بني جنسه. **** ومن المؤسف، أن ينادي بعض المتحمسين للقطاع الخاص ب«خصخصة» كل شيء -تقريبا- في كل بلد.. بحيث يقومالقطاع الخاص بما يقرب من 97 %أو أكثر، من كامل النشاط الاقتصادي في المجتمع تملكا وإدارة وإنتاجاوتسويقا. بينما تضطلع الحكومة بال3 %الباقية.؟! بل بلغ التحمس بالبعض حد المناداة بإلغاء دور الحكومات تماما.. وخصخصة حتى «الشرطة» و«الجيش».؟! وهذا إن تم الأخذ به فسيعني: نهاية الدولة، والحكومة، الأمر الذي قديؤدي بالمجتمعات للدخول قسرا -وعن سبق الإصرار- إلى عصر «الفوضى» (Anarchy (وسيادة «قانون الغاب»، حيثِ يسيطر القوى على الضعيف، إن لم يقض الأقوى على الاضعف. لا أحد ينكر ما ل«الخصخصة» من مزايا كبرى كثيرة أهمها: ارتفاع مستوى الإنتاجية - كما وكيفا، واتساع الأفقالإنتاجي، بسبب تحفيز المبادرة الفردية المبدعة. ولكن، ومع «تعميم» الخصخصة -قدر الإمكان- ينبغي الحفاظ على«دور» الحكومات الهام والحاسم في القيام بما يعرف ب«وظائف الحكومات الأساسية»، وأيضا الاضطلاع ببعض«الأعمال الضرورية» التي تقتضي «المصلحة العامة» قيام الحكومات بها تفاديا للاستغلال، وحماية للصالح العام. إن دور الحكومة -أي حكومة- كوسيط محايد وملزم، لا يمكن أن يستغني عنه أي شعب، أو مجتمع. فالمجتمع -أيمجتمع- لا يمكن أن يكون مجتمعا إنسانيا سويا بحق دون حكومة مسؤولة راشدة يقوم باختيار أشخاصها، لتوليإدارة شؤونه العامة وفق مبادئ وقواعد (قوانين) يحددها المجتمع نفسه، أو الغالبية فيوتتضمن الأعمال الضرورية للحكومات محاربة ثالوث «الفقر- الجهل- المرض» في شعوبها، عبر: مساعدة المحتاجينمن مواطنيها، والأخذ بيدهم.. ليصبحوا قوة إنتاجية مفيدة، لأنفسهم وبلادهم. وهذا يعني -بصفة خاصة- قيامالحكومة -أي حكومة- بالالتزام بتوفير الحد الأدنى من «العيش الكريم» لأبناء شعبها. ويتضمن هذا الحد -في رأيالكثير من المعنيين- ما يلى: توفير فرص العمل أمام القادرين عليه، ومساعدة من لم يجدوا عملا، أو غير القادرين على العمل - ماديا، وحتىتزول حاجتهم. القيام بالرعاية الصحية الوقائية.. وتقديم الرعاية الصحية العلاجية الأساسية مجانا. توفير التعليم الأساسي مجانا، وجعله إلزاميا. مساعدة المواطنين في الحصول على سكن صحي مناسب. هذا، إضافة إلى قيام الحكومة بالأعمال الأساسية، والتي تشمل توفير الأمن وحفظ النظام.. إلخ. **** إن كل الحكومات -مهما كانت توجهاتها، ومهما كانت مواردها محدودة- لابد أن تقوم بما ذكر من «أعمال»..رعاية للمصلحة العامة.. أي مصلحة الجميع. فعدم توفر «الحد الأدنى» من العيش الكريم ستنجم عنه مشكلاتوقلاقل لا حصر لها.. تأتي على الأخضر واليابس، وتهز استقرار وأمن البلاد المعنية، وتنزل الأضرار بكل أهلها.أما في الدول «الريعية» (States Revenue ( وهي الدول التي تمتلك حكوماتها موردا عاما يدر عليها دخلا دوريا، وتعتبر ملكية هذا المورد عامة، فإن على حكوماتها يقع واجب التوسع في القيام بالأعمال الضرورية، لأقصى حدممكن. فالملكية الجمعية لذلك المورد تقتضي أن يتمتع بثمراته كل مواطني البلد الريعي في هيئة عوائد ماديةوخدمية، وغيرها. وهو ما يمكن تقديمه في إطار الأعمال الضرورية. كل ما ذكر ينبغي أن يدفع جماعة المتحمسين ل«الخصخصة» المطلقة، ورفع يد الحكومات تماما عن النشاطالاقتصادي والاجتماعي لشعوبها، لمراجعة موقفهم، فهناك اعتبارات اقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنيةوإنسانية، يجب أخذها بعين الاعتبار، عند الحديث عن الخصخصة، ودور القطاع الخاص، والتغني ب«فضائله». ثم إنالخصخصة التي تحتمها «العولمة» الراهنة لن تكون مفيدة لغالبية سكان العالم، ما لم تأخذ هذه الاعتبارات فيحسبانها، بمنتهى الإخلاص والجدية... إن كان يراد لها أن تكون نعمة -لا نقمة- على البشرية. **** ومعروف ان التأكيد على التدخل الحكومي المكثف في النشاط الاقتصادي والاجتماعي لشعبها يعني: تطبيقااللمبدأ الاشتراكي (القديم قدم المجتمعات البشرية) بتسمياته المختلفة، الذي يتمثل الآن في عدة توجهاتوإيديولوجيات، منها: الاشتراكية الديمقراطية (والمثال عليها الأحزاب العمالية الأوروبية)، والاشتراكية الثورية(والمثال عليها: حزب العمال الكوري الشمالي، الحزب الشيوعي الكوبي، والحزب الشيوعي الصيني، وإلى حد ماالحزب الاشتراكي الفنزويلي المتحد) والماركسية، وغيرها. وقد أخذت الماركسية -المنسوبة إلى كارل ماركس- منمبدأ الاشتراكية بعض أسسه، وأضافت إليه أسسا ومضامين أخرى، هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقعالإنساني. وهناك، كما سبق أن ذكرنا، منظمة عالمية كبرى تسمى «الاشتراكية الدولية» تضم في عضويتها مئاتالأحزاب السياسية الاشتراكية (الديمقراطية) من شتى دول العالم، وتعقد اجتماعات دورية للأعضاء بها. كما تظل الدول «الريعية» تمارس قدرا لا يستهان به من هذا التوجه -كما أشرنا-. إن الموشك على الاندثار أو التغيير، أنىوجد، هو الاشتراكية الثورية، إضافة إلى الماركسية ( الشيوعية). فالاستبداد السياسي والاقتصادي إلى زوال. أماالاشتراكية المنضبطة والديمقراطية، فيبدو أنها وجدت لتبقى.. نقلا عن عكاظ