يسألني صديقي: ما هو التعريف الأدق للوطن؟ كيف يمكنني أن أحدد الوطن على خريطة العالم؟ هل يتطابق تعريفي للوطن مع تعريف الأسكتلندي أو التشيلي أو الكوري الشمالي، أم لكل منا مفهومه الخاص عن الوطن؟ وأخيراً يسألني صديقي: هل الوطن واحد، أم متعدد؟ وهل يمكن لظروف معينة أن تخلق وطناً معيناً؟ وأجيب صديقي: المفهوم المطلق للوطن واحد في كل بلاد الدنيا. وشعورك بوطنك في وطنك يشبه تماماً شعور الأسكتلندي بوطنه في وطنه. وحنينك لوطنك وأنت خارجه نسخة مكررة من حنين التشيلي والكوري الشمالي عندما يكونان خارج بلديهما. الفارق الوحيد الذي يمكن ذكره في هذا الجانب هو المذاق – أو المفهوم النسبي! والمذاق هو تقدم أو تأخر بعض محددات مفهوم الوطن - التي يتشاركها الجميع - من بلد لآخر. يتشكل الوطن من خمسة أجزاء رئيسة، هي كالآتي وفق أهميتها: أولاً: يمثل الأهل والأقرباء والأصدقاء والمعارف 50 في المئة من الوطن. خُذ هذه المجموعة معك إلى أي مكان في العالم وتكون صنعت نصف وطنك. وفي المقابل ابق وحيداً منقطعاً عن الجميع في البلدة التي وُلدت فيها وتكون فقدت نصف وطنك. ثانياً: يمثل إحساسك بالأمن وحصولك وأبناءك على تعليم وتطبيب جيد واكتفاؤك المالي 30 في المئة من مفهوم الوطن. اللحظة الآمنة التي تعيشها في بيتك، متعلماً من غير عقبات، متطبباً من غير قيود، تعدل جزءاً كبيراً من وطنك حتى وإن كنت في أقصى الأرض. وإن فرغت جيوبك، وفقدت التطبيب الجيد والتعليم الجيد لك ولأبنائك، وخفت على حياتك وأنت تسير في الشارع وحيداً في بلدتك التي وُلدت فيها، فقد فقدت ثلث وطنك. ثالثاً: 15 في المئة من مفهوم الوطن تتمثل في حقك في التعبير والتفكير والاختيار بحرية، وانتمائك إلى منظومة اجتماعية وعملية تحترم وتقدّس مبدأ تكافؤ الفرص والتنافسية العادلة. جزء كبير من وطنك هو في حريتك المحمية بالقانون. هو في شعورك بالعدل لك وللآخر في رحلة تقديم نفسك وإثبات ذاتك. أنت داخل الوطن ما دمت تملك هذه الحرية وهذا الشعور، وإن فقدتهما فقد انسلخ جزء وطني كبير من جلدك. رابعاً: 4 في المئة من مفهوم الوطن تتمثل في ارتباطك بالأشياء والطقوس التي ترعرعت فيها وبالقرب منها: وجبة طعام تحبها... معْلم مكاني يستهويك... مناخ تعودت عليه... وتقليد اجتماعي كبرت معه. نسبة قليلة من وطنك لا توجد إلا في أرضك التي ولدت وعشت فيها، تغادر وطنك إن غاردتها، وتغادرها إن غادرت وطنك. خامساً: 1 في المئة من مفهوم الوطن هو في آلاف الأشياء الصغيرة التي تصنع وطناً مكتملاً في وجدانك... التاريخ واللغة والجغرافيا والأساطير والذكريات والآمال، وكل ما يمكن أن يضاف على فاتورة الوطن باستثناء الأجزاء الأربعة التي سبق الحديث عنها. وبالمناسبة، فإن امتلاكك أي جزء من وطنك يلغي شعورك تجاهه بالقصدية الوطنية، ويجعله محمياً بجدران اللاوعي في عقلك. وأما فقده، فيبقيه على الدوام وطناً حاضراً في الوعي، وموجوداً على الدوام في المراثي والبكائيات! وهذا ما يجعل الأغنية الوطنية رائجة جداً في الجمهوريات العربية ذات الوطنية الواعية، بينما لا نكاد نعرف لها طريقاً في الديموقراطيات الغربية التي هي بطبيعة الحال ذات وطنية لا واعية. وطنك هو الفكرة المفقودة في خيالك، لا الواقع الراهن! وطنك هو أهلك وأقرباؤك وأحبابك وهم بعيدون، فإذا ما امتلكتهم تحول وطنك في شكل آلي إلى حاجتك الملحة إلى الأمن والتعليم والتطبيب والكفاية المالية. وإذا ما امتلكت هذين الجزءين صار الوطن، كل الوطن، هو حقك في الحياة بحرية، وحقك في الترقي بعدل. امتلك هذه الأجزاء الثلاثة يصر وطنك هو العادة والتقليد الذي لا يمكن ان تمارسه في المكان والزمان اللذين يضمانك، ووجبة الطعام التي تحبها ولا تجدها... هكذا بكل بساطة... لا أقل ولا أكثر. أما اذا امتلكت هذه الأجزاء الأربعة الرئيسة فستفقد الشعور بالوطن فيها، ويتحول الوطن بالنسبة إليك إلى خيط من نور تتعلق به آلاف الأشياء. بملكية أجزاء الوطن الرئيسة، يصبح كل شيء في عقلك وقلبك وطناً... من جدك الثامن عشر وحتى وجه حبيبتك. الوطن هو الوطن في كل مكان في الدنيا، لكنه يتغير من بلد إلى آخر وفق ما تملك وتفقد من أجزائه الرئيسة. * كاتب سعودي [email protected] نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية