شمال القلب لم أشبه يوما أحدا في هذا الحنين الذي غيرني كثيرا وأعاد ترتيب خارطة الزمن لدي والطريق، أقول ذلك لأن ما يبنى بداخلي في كل يوم أشبه بعوالم تقيم قلاعها، صروحها، مبانيها الشاهقة وجسورها التي تربط بين الوجع والفرح معا وكأنها تجرب أن تعيد ولادتي من جديد.. هنا أعترف بكل ذلك وأكثر. أعترف بأنني امرأة الجسد الذي ذاب في قصاصة نهر جرى مجرى الحب ولم يشبع من كل ذلك الجنون وآثر أن يكمل المشي فوق الشوك لأنه يعلم بأن ذلك مصيره في الحياة.. وأعترف بأن كائنا آخر يشبهني يأتيني من أغلفة الكتب ليحرك بي أغنيات الأشواق والمشاعر المتضاربة وليحكي لي عن أشياء كثيرة يصعب جدا أن أكتبها دفعة واحدة.. أعترف هنا بأن الحلم كان أكبر من ذائقة الورق، وبأن الذين عاشوا حكاياتهم عبر كلمة في كتاب لم يستطيعوا أن يصفوا ما كان بيني وبين القمر الذي مرجحني ذات فجر فوق أرجوحة من « عشق «.. اليوم أعترف بأني حفظت جميع ملامح ذلك الوجه بقلبي، وبأن الصوت والخيال لم يكونا كافيين لأنسى الخطوات تلك التي مشيتها فوق الجليد.. ومن الكتب سأقرأ كثيرا حتى أجد من يشبهني في الحلم.. الحلم بأن أمسك يد الحب وأراقصه عند منعطف الاختيار.. حيث يروي الرواة رواياتهم.. فمرة أرغب أن أكون تلك المرأة التي أحبت رجلا يرسم الجسور كما في رواية «ذاكرة الجسد» لأحلام مستغانمي، ثم أرغب أن أكون باولو كويلو في رواية «الألف» وأن أكتشف تلك المنطقة المدهشة التي تغير الانسان، وأرغب أن أكون «مريم» التي تبرأ من حبها واسيني الاعرج في روايته «انثى السراب».. إنني أرغب أن أعيش تلك العوالم وأن أتغير وأتغير لأصبح امرأة كاملة. مضى وقت طويل وانا مازلت خلف طاولتي أكتب. ومن خلال مذاق الحبر الذي أسكبه في كل صباح لأرتشف من فنجانه أجدني وأنا هنا أدخل أحد الكتب وأزور اليابان في اقصى زاوية من شمال القلب، رائحة البرد تقتحم مشاعري وفي سمعي اصوات تأتي من كتب في مكتبة جامعة تام للفنون في طوكيوباليابان حتى تشعل بداخلي اللهفة وتعيد لي الاحلام تلك التي أراها كلما رتبت لقاء يجمعني بشخصيتين تأتيان لي بالحروف وأهبها كل الكلام والبوح. هنا.. أعيش هذه الحكاية. فالحوار حدث مع الشاعرة والاعلامية « ميسون عبدالرحمن ابو بكر « والشاعرة هيلدا اسماعيل. إلا انه خارج سطوة المكان.. خارج الكذب إلى حقيقة اشتهي أن أقبض عليها لأنها مغرية ومدهشة.. في زاوية من شمال القلب. لم اختصر سنوات العمر لأن ما مر بي صعب الاختصار والإهمال والنسيان أحتاج لتلك الشمعة النحيلة لتبدد العتمة وتسمح للضوء بالدخول * تبدو مكتبة جامعة تام للفنون في طوكيوباليابان مكانا صالحا للعشق، فالكتب مرتبة بشكل متناسق وكأنها زهور الجوري، فيما بقيت طاولات القراء مجاورة لجدران المكتبة الزجاجية المطلة على مساحة شاسعة خضراء وعلى مرتفعات جبلية رائعة وسماء زرقاء كأنها البحر.. فيما يلف الصمت والهدوء المكان وكأنه يترقب حالة حب محرضة للقراءة في القلب. * وعبر ممرات الأرفف للكتب تنقلت مع هيلدا وميسون لنبحث عن كتب تشبع أشواقنا نحو الحياة.. فبينما كانت هيلدا تفتش عن كتاب يشبهها، كانت ميسون تمسك بكتاب وتقلب صفحاته كمن يقلب في حكايته الخاصة، فيما فضلت أن أصغي للصمت لمزيد من التأمل في المكان. ذلك السكون الذي كان يحرك بي كل شيء نحو الأحلام.. * أقترب من الرف الذي كان يفصلني عن ميسون.. أهمس لها: عبير: المكان هادئ جدا.. وكأن هناك التباس كبير بين حالة الهدوء وبين الشعور بالفراغ. وفي الفراغ هناك دائما وحدة.. هناك صوت قادم من الاعماق يذكرنا بما يمكن أن نكون قد رغبنا كثيرا أن نهرب منه، في الفراغ نجدنا وأناس كثر يشبهوننا في العزلة التي تسكننا قبل أن نسكنها.. أرفع أصبعي السبابة قريبا من أذني.. وأهمس: أسمعي.. ثرثرة الفراغ في المكان.. وكأننا دخلناها. دخلنا الوحدة.! * ترفع رأسها ميسون بعد أن كانت تقرأ في الكتاب الذي بين يديها تبتسم.. ثم تقول لي: لا أشبه تلك النساء اللواتي تزدحم حقائبهن بمستحضرات التجميل وقوارير العطر علينا أن نقتحم المساحات حتى إن خدشنا البياض بلون آخر ضئيل يمكننا ان نشعر بالوحدة ونحن في صخب عشرات الأشخاص وبرفقتهم، الوحدة ان تنادي فلا يسمعك غيرك، ان تبكي فلا يراك سواك، أن تسمع صدى صوتك بعدما ارتطم في البعيد، لكن أحيانا كثيرة نحن نهرب إليها لنستفرد بذواتنا، ليس لأننا ذوات متوحدة بل لأن فيها خلاصنا، لأننا نجد من خلال وحدتنا بانفسنا سبيلا للكتابة وسبيلا للتفكير ومتعة أحيانا في اجترار الذكريات، هي نافذة على البوح بصمت، على التفكير ومحاسبة النفس، نافذة لتأمّل الأشياء، لنعيد ترتيب أشيائنا وحياتنا * تخفض رأسها وتنظر للكتاب كمن دخل "عزلة" وتقول: مئة عام من العزلة للراحل ماركيز "دائما مفردة العزلة فيه تفتح امامي أبوابا للتأمل، كيف تراه جابرييل جارسيا ماركيز الذي شارف على المئة عام وجنى ما جناه من مجد وارث إبداعي ان يقرر ان يروي مئة عام وضعها تحت خانة العزلة!؟" أتذكر ومضة كنت كتبتها لعلها بابا من أبواب الوحدة: هي كالأشجار لم يشعر لما ماتت إلا حين احترق يباسها الوحدة التي تعانيها المرأة المعنية بالقصيدة السابقة هي نوع من الوحدة القاسية، وحدة إجبارية، لكن من الوحدة من ننشدها نحن لننعم بشيء من الثبات. * تعيد هيلدا الكتاب الذي بين يديها إلى رف الكتب.. وتقول: دائماً ما كنت أقول بأن النساء أخطر من الرجال حين يتملكّهن الفراغ، لأنهن يقعن أسرع تحت وطأة الوحشة التي قد تصل إلى العزلة عدم الثقة بالآخر وأحياناً إلى القسوة أو العدوانية، أمّا الذين يفهمون أعماق الفراغ وخلجاته، يستطيعون أن يكونوا أوفياء له، لأنهم سيخرجون منه متشوقين إلى الحركة والدنيا والناس. * تستدير إلى أحد المقاعد الفارغة.. تتأمله كمن يجرب أن يقرأ الصمت الذي يلفه.. تهمس: من يحبني سيحب الحب الذي أحبه وأعيش من أجله توسلت لذلك الرجل حتى يبقى في حياتي ولكن ألم الفقد كان أكبر في حياتي المزدحمة جداً لا أذكر بأنني حصلتُ على مقعد فارغ إلّا بصعوبة بالغة، الفراغ.. كتلة من الصمت أو من البياض أو من اللاشيء، كل يراها حسب حاسته الأقوى، ولذلك أحاول أن أقتحم هذه المساحة الصمّاء بالحركة إذ لا يمكن أن يتبدد الصمت إلا بالصوت ولو برنين صغير، ولا يمكن للبياض أن ينخدش إلا بلون آخر ولو بخربشة ضئيلة، ولا يمكن للعتمة أن تنجلي إلا بشيء من الضوء ولو بشعاع شمعة نحيلة. * نتجول من جديد في ممرات تلك المكتبة.. أمد يدي نحو ارفف الكتب وألمسها بأطراف أصابعي وأنا أسير بجوارها وكأني أجرب أن أحرك الموج عبير: رائحة الكتاب مغرية لمزيد من القفز، وشكل الكتب وهي في صفوف مرتبة تبعث بداخلي شعورا لا أعرف أن أصفه.. ربما أقرب إلى الحياة الأخرى في مكان آخر.. ذلك مدهش.. ميسون: أنت ضربت وترا حساسا -ياعبير- وتطرقت لمشروع حياتي، ليس تلاعبا إن قلت إن أغلب جدران منزلي أرفف خشبية جميلة التنسيق كمكتبة من مختلف الثقافات، صحيح ان معظمها باللغة العربية لكن منها مترجم ومنها الشعر والرواية التي تحتل مكانا لا بأس به، ومنها السياسي والتاريخي، وكتب اقتصادية تتناسب مع نشاط زوجي الاقتصادي حول العالم، والتي بدأت بيني وبين هذا التوجه علاقة ألفة حيث اتابع الاخبار الاقتصادية والأسهم وبعض التجاوزات التي تقوم بها الشركات وبعض النماذج العالمية الناجحة اقتصاديا والتي خدمت المجتمعات. نعم تخفيت خلف ذلك العالم حتى أكون متواجدة ولا أكون مؤلم حال الكاتب الذي يوزع كتبه بالمجان فيعيش فقيرًا ولا يجد من يمشي في جنازته المكتبة يا -سيدتي- هي القفص الذهبي الذي أهوى البقاء فيه ما استطعت، فنحن غالبا ما نستعير من فكر غيرنا ذاكرة قد لا نسهم في تشكيلها. الكتاب خلاصة حياة وتجارب الآخرين سواء من الذين مضوا او أولئك الذين تقنا للقائهم فحملتنا كتبهم لمرافئهم حيث كانوا. النساء تحمل في حقائبها مستحضرات تجميل وقوارير عطر وانا لا أشبههن لان الكتب هي التي تثقل حقيبتي وهي التي أحرص بشدة ان أختارها في رحلاتي اليومية او تلك الطويلة خارج المملكة والتي تمنحني فرصة اكبر لرفقتها. على الرغم أن التقنية أخذت منا وقتا كبيرا في تعقب جديدها الا انها وسيلة بين الوقت والآخر لقراءة مادة ما، على الرغم من انها لا تُشعرنا بحميمية رفقة كتاب واستنشاق رائحة الحبر والورق، فالكتاب تحضر معه كل حواسنا. عبير: إذاً دعيني أتعرف على ذائقتك في الكتب.. ماذا ترغبين أن أخرج لك من هذا الرف؟ ميسون: كتبي المفضلة التي أهديت منها للكثير من الأصدقاء سواء كانوا عربا او أجانب فهي رواية "طعام.. صلاة.. حب" لإليزابيث جيلبيرت، كما كتاب الطاقة أوشو. فنحن بحاجة للطاقة الإيجابية التي يمكنها أن تبدد كل ما هو سلبي حولنا وكل ما يحيط بوطننا العربي من انتكاسات. هل أخبركما عن شيء؟ المكتبة في ريو دي جينيرو بالبرازيل فيها 350000 مجموعة كتب، وفيها كتب قيمة من القرن السادس عشر حتى التاسع عشر باللغة البرتغالية جاءت الى البرازيل عبر السفن، المكتبة تحفة فنية بديعة كالأوبرا، أتمنى يوما زيارتها. هيلدا: مع الكتب.. أمارس كثيراً من العفْرتة.. التخفّي.. التشبُّح، أعني أن أكون متواجدة ولا أكون، أراقب المبدعين من خلال كلماتهم وإيماءاتهم في الوقت الذي لا يراني فيه أحد. أذكر أنني حين كتبت كتابي الأخير«دانتيلات» وفتّشت عن السعادة في ثياب الآخرين.. لم أجد مفراً من فتح ورشة كبيرة داخل أحد الغُرف في منزلي، وسُرعان ما انتقلت العدوى للغُرف الأخرى، كتبٌ تنام على وجهها في كل اتجاه، أقلام رصاص مقضومة، أكواب قهوة فارغة، ومشهد يتكرَّر بمتابعة الخطط وتبادل الخطوات المقترحة والعبور من صفحات لأخرى. كل هذا من أجل أن أختار الكتب التي أثّرت بي وصادقتها يوماً.. حتى وإن كنتُ مخطئة بذاتيتي وأسراري في الكتابة إلاَّ أننا جميعنا بحاجة إلى أصدقاء حميمين، وتلك الكتبُ قضيت معها أوقاتاً ساحرة، وكانت الكتابة عنهم هي الثمن الضئيل الذي دفعته من أجل أن يكون لي أصدقاء مرة أخرى. عبير: كل ذلك جميل.. وبرغم ذلك إلا أنني بعد طول تجربتي مع القراءة لم أجد ذلك الشيء الذي أحلم أن أقبض عليه، حالة منفلتة ومغرية أيضا.. الكتب تمنحنا عوالم وتفتح السبل أمامنا ولكنها توقظ فينا الحقيقة الكامنة من وجود ماهو موجود ولكننا لا نحسن ان نقبض عليه.إنها مشكلة المتاح والمستحيل في آن معا. * هيلدا تتناول فهرسا مرقما وضع على إحدى الطاولات بشكل منظم. وتعلق: من المفترض أن يكون الكاتب في حال بحث مستمر، وكم سيكون حزيناً ذلك الكاتب الذي يجدُ مايفتقده، الوصول إلى الهدف خيانة لخيال القارىء الذي يسكن داخله.. بل هو نهايته على الأرجح، ولهذا أظنّ من الحكمة مراجعة ما نملكه من قراءات، واختبار علاقاتنا بالكتب التي قرأناها، ماذا سنفعل حيالها، وحيال الوقت الذي قضيناه في تسجيل الملاحظات حولها؟!؟ في الحقيقة لم يخطر ببالي يوماً أن أجد إجابة عن هذه الأسئلة، أو أن أفكِّر بالقبض على ما أريده، ولكن يبدو أن الأمر الأهم والأمتع هو الفرح بمتعة القراءة ذاتها. لكنني من ناحية أخرى أبحث دوماً عن الشخصيات المعطاءة وسيرتهم لأتعلم منها، لا أحد يصدقني حين أقول بأن قدراً ضئيلاً جداً من العطاء.. قد يساهمُ بِشكل كبير ورحيم، وقد يكون كفيلاً بأن نترك العالم.. هذا العاَلم بحالٍ أفضل مما وجدناه عليه. مازالت غالبية الناس تدير ظهورها للمسؤولية الاجتماعية ولايستوقفها جمال العطاء وتعاقب فصول الخير و الشر، قلة من الأشخاص من يشكرون الحياة لأنها منحتهم الفرصة لخدمة الآخرين، ليتنا نستطيع أن نؤمن حقاً بأن هذا الجسد الذي نعيش به ليس ملكنا وحدنا.. وإنما يعود أيضاً لهذا الكون ومسؤوليتنا تجاهه. ميسون: أظن بأنه ما لم أقبض عليه بيدي، فعلتها بتفكيري، وما لم أعشه أستعيره من تجارب غيري في بُطُون الكتب، أحب قراءة الكتب ومناقشتها، وأحب اقتناءها، كم كلفني شراؤها وشحنها ثروة، وكلما سمعت بشخص وأردت تحليل شخصيته سعيت إلى البحث عن مؤلفاته في مكتبتي. أشد ما يحزنني أنني أرى الجيل الحالي لا يعرف قيمة القراءة ولا يدرك قيمة الكتب، رغم محاولات كبيرة من جهات عدة لترسيخ مفهوم القراءة، أفقر البشر هو الكاتب الذي يؤلف ونتيجة عصارة فكره ينشرها في كتب ترهقه ماليا تكاليف طباعته ونشره ثم يوزعها مجانا ليعيش فقيرا معدما ويموت دون ان يجد احدا يسير في جنازته. * نتجه نحو أحد الطاولات المطلة على منظر خلاب يطل من خلف الزجاج نختار مقاعدنا ونجلس.. نغيب مع ذلك المنظر الجميل.. عبير: ممتع ذلك المشهد الباعث على الحياة والصخب.. كم اشتهي أن أفرح. كم أتوق جدا لأن أمارس طيش وصخب الحياة. أشتهي أن ألتهم كل حلوى الايام، وأن أسكن في حكاية ضحكة.. ميسون: سعادتي هي وصفة حياتية يومية، فرح مسروق من نعش الحياة التي ترهق البشر التعساء وما أكثرهم في عالمنا، هي تغريدة عندليب قد يقف على الشجرة العالية في منزلي قرب الأرجوحة التي اهرب اليها أتوسل طفولتي ان تعود، فرحي هي ابتسامة طفل متفائل، هو قصيدة هاربة من قبضة الروح إلى حقول الحبر. فرحي هو حلم مشتهى، رغيف أوزعه على الفقراء، أمل أمنحه كل الذين آوتهم مخيمات التشريد، فرحي هو ابتسامة طفل أتوق لعالمه، وهو كتاب أحصل عليه صدفة، وأغنية تحملها سيدة الغناء كلما بزغ الصباح مع فنجان قهوة وقطعة شوكولا. أتوق لفرح حقيقي يعيد للكون هدوءه، ففرحنا مسروق وسط عذاب أطفال سوريا، وضائع مع كل أولئك المغرر بهم تحت مسميات مختلفة لمنظمات إرهابية سرقت مستقبلهم وهدوء أسرهم، فرحي غيمة شاردة في السماء حبلى بسعادتي قد تجود علي بقطرات تروي ظمئي. * تميل هيلدا برأسها على كف يدها اليسرى وتقول: لا شيء يضحكني من قلب إلا شقاوة الأطفال ودفء أصواتهم ولثغاتهم وتعثّرهم بالكلمات، ولأن دنيتي مليئة بأرواحهم بسبب مجال عملي مع الأطفال ذوي الإعاقة، فغالب الوقت ضحكاتي لا تنقطع، بل هي كثيرة وخادشة للحزن والهموم والكآبة. وعلى الرغم من أنني أعمل مع الكثير من الأجساد التي ليس بمقدورها الحصول على الشفاء التام، أو تحقيق أبسط أمنياتهم بالمشي أو الكلام، وعلى الرغم من أنني فقدتُ أطفالاً للأبد، ولم يستطع أحدٌ منّا إنقاذهم من قدر الموت، ولكننا بمساعدة البقية من الذين مازالوا يبتسمون ويمرحون يصبح بإمكاننا تضميد الجراح، والتخفيف من وطأة معاناتنا ومعاناتهم. والعودة للفرح والابتسام من جديد. * ألمح كتاب ترك على الطاولة مقلوب على وجهه. أقلب الكتاب.. " كيف تتغلب على علامات الشيخوخة ".. أضحك.. ألوح بالكتاب وأقول: عبير: من يتقدم أولا.. الزمن يتقدم بنا أم أننا من نتقدم بالزمن؟ ومن سينتصر في هذه المعركة؟ ميسون: العمر الذي قد تخشاه النساء فتواريه بمساحيق التجميل وعمليات الترقيع أنا لا أخشاه، فكل لحظة من عمري هي مشروع حياة وحافظة مليئة بالذكريات التي تؤرخ للزمن. العمر هو ظلي الذي لا أفارقه ولا ألعب معه لعبة "الغميضة"، يذكرني بعدده خطو أبنائي على أديم الحياة وإنجازاتي التي أدعي أنني حققتها، ليس لدي مشاكل النساء التي تؤرقهن ولا معاناة جوفاء لا تصلح لامرأة هي أنا، قد أبدو أصغر بكثير من شابات في مقتبل الحياة أرهقن أنفسهن وحملنها ما لا تستطيع له حملا، لا أختصر سنوات العمر لأن ما مر بي صعب الاختصار وصعب الاهمال وصعب النسيان، في كل يوم لي حكاية مع الشمس ومع القمر، مع الليل ومع النهار، مع الكائنات والاشياء التي لا أجعلها تمر بي مرور الكرام. عمري محطات أتزود بها من تجارب الحياة، وحقائب مليئة بكل الذين تَرَكُوا أثرهم في حياتي، عمري شهادة ميلاد أحملها في وثائقي الرسمية التي ما حاولت يوما تزويرها أو إخفاءها. فكيف لي أن أختصر العمر. هيلدا: أما أنا فأخاف سطوة الزمن طبعاً لكن ما أخشاه أكثر أن منسوب ما أعيشه من أحلامي وإرادتي ورغباتي يكون أقصر وأقل من السنوات التي أحاول أن أحققها، على فكرة فنانة أنا في عمليات المونتاج الشعوري من أجل استبقاء اللحظات الجميلة فقط ومراكمتها. الزمن يختلف عن العمر وإن كانا متلازمين، هو حالة موضوعية تفرض سطوتها على كل الموجودات، أما العمر فنقيسه بما نعيشه، فعندما نكونُ في كامل صحَّتنا، نعتقدُ أنَّ ما من عوائقٍ سوف تواجهنا وأن الزمن في قبضتنا وبين أصابعنا، إنّما الحياة علَّمتنا أن نحمِل على ظهورنا تجارب وخيبات تتطلب إزاحتها والتخفيف عنها أعواماً طويلة. عملية العيش في اللحظة الحالية والقبض على المتعة ليست دائمة، لأنها تكون كفاحاً، أما الأمر الذي يجب أن نفهمه فهو.. أنّ هذا الكفاح لن ينتهي أبداً. عبير: لا يؤرقني الزمن وتسارع خطواته.. مايؤلمني أن يمضي ومازال هناك الكثير لم أعشه بعد أو ربما مازل هناك أحلام لم أقبض عليها بعد.. بداخلي الكثير وأصعبها تلك المنازل المغلقة.. لا يسكنها أحد. لأنها مازالت مأهولة بأصحابها حتى بعد أن غادروها وخلفوني وحيدة.. الفقد موجع ولكن الأكثر ألما منه أن تشعر بفقد من كان يملك القدرة على فهمك والاحساس بك، من كان أكثرهم تقديرا لإنسانيتك ولكنه أصبح غريب عنك.. * أنظر لهما بعمق.. انسحب إلى ذلك المدى البعيد وأكمل: ما أصعب أن تشعر بالغربة مع من كنت لا تشعر بالحياة والحب إلا معه. ميسون والبياض يسكن صوتها: أشياء الغائبين التي تركوها حولنا تؤلم أكثر من ألم فقدانهم، فقد كان في حياتي رجل عظيم غيبه القدر، وقفت ذات يوم قرب سريره أتوسل بقاءه، وكتبت عشرات الرسائل الى الله ليبقيه على قيد الحياة، لقد كان الرجل الأول الذي علمني أبجدية الحياة وعلمني أن أكون المرأة القوية التي أنا هي اليوم، علمني ألا مستحيل وإن الحياة إرادة، عشت على أمل نبوءته التي أكدت لي أنه سيأتي اليوم الذي أمنح مفاتيح قلبي لرجل قد يتشكل في هيئته، هيبة أبي وحنانه وقوته. بعد أن أقفرت منازل القلب من ساكنيها عادت نوافذه لتشرع أمام الشمس، وعادت حقول عباد الشمس لتنمو بالضياء وبأزهار تستقبل الشمس إن أشرقت وتنحني إن غربت. قلبي منازل للأمل الذي يأبى إلا ان أنبض به، "حين أموت.. سأكتب على شاهد القبر: هنا جسدي لكن روحي هناك.. تشاركك الحياة" * هيلدا وذلك البوح الحميم يسرقها: لستُ بحاجة إلى أن أقول بأنّ بعض الناس الذي ولدوا ليدمّرونا هي فكرة قبيحة على هذا الكوكب، ولكن لنعلم أن لولا وجودهم حولنا لما عرفنا أصلاً بأن للحيَاة قيمة أكبر ولما تمسّكنا بحقنا فيها، ولما عزّزنا ثقتنا بذواتنا وعرفنا كيف تكون السعادة بعيداً عنهم، مؤمنة بأن حبّنا لذواتنا وجعلها أكثر سعادة وتقبلًا.. هو فقط مايمكن أن يجذب الآخرين إلينا، لأنهم بالتأكيد لا يرغبون في أن يكونوا بالقرب من شخصٍ تعيس لا يعرف قيمة ما يملكه. عبير: وماذا – يا هيلدا – عن غيابنا نحن.. حينما يكون أمامنا أكثر من باب للخروج من هذه الدنيا.. ترى أي باب يجب أن نختار لكي نخرج ونوصد الباب خلفنا؟ ومن الذي ستنقص حياته كثيرا بغيابنا؟ هيلدا: تعرفين – يا عبير- قبل ثلاثة أعوام فقط توقفت عن سؤال نفسي هذا السؤال الذي تطرحينه علي، الآن.. أنا على نقيض ما كنتُ عليه من رغبة واستعداد تام للرحيل، الآن أنا متمسّكة بدقائقي التالية لأستمتع بها، لأعوّض جزءاً مما فقدّته، الموت قد لا يكُون كارثة في حال أن الشخص أنقذَ أرواحاً لا عدَد لها قبل أن يقضِي نخبه، ولهذا مازلتُ أدافع عن وجهة نظري في أن القاسم المشترك الذي من شأنه أن يجعلنا سعداء هو (الحب)، ليس بمعناه الرومنسي المجرّد أو الممتليء بالزهور الحمراء والشموع والإيماءات والهدايا، إنما طريقة استخدامنا الاستثنائية لتفاصيل هذه الكلمة تجاه من نحبهم، والدينا، أولادنا، أزواجنا، وحتى حيواناتنا الأليفة، وبقدر الحب الذي نهبه للآخرين، فإن صورته ستنعكس على أرواحنا التي يوماً ستغادنا. مقتنعة تماماً بأن كفّارتي الوحيدة لكل ماعانيته هي مزيد من الحب الذي مازلتُ أملكه نحو الكائنات، على الأقل نحو أقدام الأطفال أو القطط الصغيرة. ويبدو أنه هو الباب الوحيد الذي أرغب أن أغادر منه هذه الحياة، وحين يعلم من أحبهم بأنني أخيراً حصلت على ما أستحقه. فلن ينقصهم غيابي أو فقداني للأبد. من يحبني.. سيحب الحب الذي أحبه وأعيش من أجل الحصول على المزيد منه عندما أغادر. ميسون: لا أعتقد انه من دخل الحياة وكان حكاية من حكاياها يمكنه ان يخرج منها حتى ان غيبه الموت، لان الذاكرة سرعان ما تستحضره وإن غاب عن صفحات الحياة. هناك أشخاص كانوا قدرنا، حملوا ملامحنا وتسموا باسمائنا، وهناك اناس اخترناهم في محطات الحياة المختلفة سواء احبة او أصدقاء، هؤلاء هم انتصاراتنا ومكاسبنا، وكنوزنا. "يتوقف الزمن حين تغيب تغرق الشمس في جليد قلبي عبير: كم أخشى ان يتحرك قلبي يوما من مكانه فلا يصغي لما يقول. كم أخشى أن يتوقف عن النبض. هيلدا: القلب الذي يتحرك ليصارع الغرق، لابدَّ أن يكون شجاعاً.. أن لا يعرف معنى أن يكون جباناً. فالهزيمة بخسارة واحدة أو حتى بعدد من الخسارات ليس أمراً يستحق أن نعيشه، علينا أن ننبثق بعد كل إغراقة، وبعد كل ضربة حظٍ عاثر.. وأن نعرف كيف نهتم بالدنيا على نحو يقبل الفشل، الغيرة، القسوة، والإحباطات. فمن المؤكد أن الكثير من الأخطاء التي ارتكبناها في الماضي مازالت قائمة في الحاضر الذي نتداوله ويتداولنا. ومن المؤسف أنَّه لا يمكن الرجوع إلى اللحظة التي مضت كي نعيشها دون أخطاء اقترفناها. ميسون: خفت على قلبي حين توقف عن الحب، فرميت بمفاتيحه ذات سفر إلى البحر الذي استأمنته عليه، البحر صديقي الذي استأمنه على أسراري، صديقي الذي لا يموت ولا يفنى، دوما أشرع له أشرعة القلب فتستريح روحي قرب مرافئه. وحين استدل قلبي على الحب الحقيقي جاءني المارد بمفتاحه وسلمه لمن منحته قلبي. تعلمت أن أتبع بوصلة القلب، وان لا أركض وراء سراب، فأنا امرأة حقيقية لا تستهويني الأوهام ولا أملك ان اضع قلبي في مهب الريح والوهم، كلما سمعت قرع نبضي أدركت أنني بخير وانني على قيد الحياة. أسخر احيانا من الذين تهون عليهم قلوبهم فيشرعونها كلما هبت ريح وطرق طارق ويا كثرتهم من كانوا عابري حياة سرعان ما يغادرونها. الحب وعد بالحياة.. رغيفها، ولنا أن نكون ملكه متى أراد الله واستقرت بنا اقدارنا على مرافئه، وإحساسنا هي المتارة التي نستدل بها على شواطئ النجاة، وإحساس المؤمن الحقيقي لا يمكن ان يخطئ ابدا. * يسود صمت بيننا أشبه بذلك السحر الخفي. نتناول كتبنا نفتحها على أول صفحة في الحياة.. نتيه في ذلك الزحام القادم.. ثم نعود من نقطة حرف في جزء من الثانية التي تأتي بكل الكلام في اقصى زاوية من شمال القلب. هيلدا إسماعيل هيلدا في مركز خاص لذوي الإعاقة ميسون في دبي في رحلة استجمام مع الأسرة هيلدا في ملتقى سين ميسون في تقديم حفل تكريم الفنانة ابتسام لطفي ميسون في احتفال السفارة الجزائرية باليوم الوطني بالرياض هيلدا مع الطفلة رانيا من متلازمة داون هيلدا في معرض فوتوتشكيلي لهيلدا في مدنوات لصالح الأطفال المحتاجين في مركز الإعاقة هيلدا تشرف على فصول التعليم الخاص هيلدا مع وفد من وزارة التربية والتعليم الكويتي ميسون مع الإعلامي داود الشريان في الشارقة خلال المشاركة بمؤتمر الاتصال الحكومي ميسون مع الفنانة ابتسام لطفي في احتفال الجمعية السعودية للمحافظة على التراث