اجمالاً يهتم الناس عادة بما يمسّ مصالحهم مباشرة أو يؤثر فيها، وما عدا ذلك فهو محل خلاف. هذه قاعدة عامة في علاقة الرأي العام بالسياسات الحكومية أياً كانت طبيعة الأنظمة السياسية أو توجهاتها، وحتى وقت قريب كانت الحكومات هي من يشكل الرأي العام ويوجهه بما يخدم سياساتها الخارجية، ولاتزال هذه القاعدة قائمة إلى حد كبير، إلا أن الثورة التقنية، التي كان من أهم ثمارها كسر احتكار الحكومات صناعة المعلومة ونشرها، بدأت في تغيير العلاقة بين الرأي العام والحكومات باتجاه يعزّز تأثير توجهات الأفراد في المواقف والسياسات الحكومية. الافتراضات الأصلية لتحييد الرأي العام عن السياسة الخارجية لم تتغير، فهو غير مهتم بما يحدث خارج حدود الدولة وتنقصه المعلومات، وفي الغالب تحركه المشاعر عوضاً عن الحقائق، إضافة إلى أن السياسة الخارجية تعنى بالمصالح العليا للدولة وتتسم بالتعقيد، ما يستدعي تحصينها ضد تقلبات المزاج العام ووجود قناعة أن «الحكومة أدرى بما يحقق المصلحة الوطنية»، على رغم ذلك نلحظ تنامي تأثر السياسات الخارجية بالرأي العام، ولعل هذا التأثير يظهر بشكل خاص في مجتمعات كان الحديث فيها عن رأي عام بدعة ومثار استغراب. هذا النمو في مستوى الاهتمام مصدره سبب بسيط يتمثل بما يمكن تسميته ب«تمكين العامة بسبب كسر احتكار وسائل إنتاج المعلومة وبثها»، فإذا كان اهتمام النخب بالقضايا الخارجية أمراً متوقعاً، بالنظر إلى ما تحمله من اعتقاد وشعور بالمسؤولية تجاه قضايا «الأمة»، فإن الانفجار الراهن في اهتمام العامة بهذه القضايا أمر يستحق الدرس والبحث. ولعلنا نجد التفسير لهذا الانفجار في ثنائية كسر احتكار وسائل الاتصال وتغير طبيعة القضايا الخارجية، إذ أصبحت تمثل تهديداً حقيقياً وملموساً لأمن المجتمعات وحتى لوجودها، ولذلك تسببت في قلق حقيقي بين عامة الناس، فلم يعد بمقدورهم تجاهلها وتركها للحكومات. إذن، وللأسباب أعلاه فلا خلاف في تنامي اهتمام الرأي العام بقضايا السياسة الخارجية، لكن هذا لا يعني ترجمة هذا الاهتمام إلى تأثير في المواقف والسياسات تجاه هذه القضايا. الحكومات لا تستطيع وليس من مصلحتها تجاهل الرأي العام واتخاذ مواقف ورسم سياسات تتعارض معه وتصطدم بالمزاج العام للناس، وهي دائماً في حاجة إلى تأسيس سياستها الخارجية على إجماع وطني، إلا أن هذا لا يعني أيضاً أنها تجعل مواقفها وسياساتها رهينة بالرأي العام، وذلك لسبب بسيط جداً وهو أن السياسة الخارجية تقوم على حسابات صلبة صعبة ومعقدة - أو يفترض بأن تكون كذلك - وهذا لا يستقيم مع رأي عام مبني في الأصل على مشاعر ويفتقد المعلومة ولا يرى أبعد مما يشاهده في شاشات التلفاز ويقرؤه في وسائل الاتصال الاجتماعي، وغالبه من نوع التضليل الإعلامي الممنهج في إطار المواجهات السياسية. وعلى رغم أن هذا الحضور المتزايد للرأي العام في قضايا السياسة الخارجية قد يحد من الخيارات المتاحة أمام متخذ القرار، أو يجعله يتحرك بطريقة غير مباشرة، فإن هذا لا يعني ارتهان المواقف والسياسات للرأي العام، وبخاصة ذلك الذي يحرص أصحابه على التعبير عنه من خلال وسائل الإعلام الجديد. فعلى النقيض من السياسة الداخلية التي يؤثر الموقف العام منها في العلاقة بين المواطن والنظام السياسي - وإن بشكل تراكمي - فإن السياسة الخارجية لا تبلغ هذا المستوى من التأثير، ما يوفر للمسؤول مرونة أكبر في التحرك وفق حساباته وما يقتضيه الموقف ومعطياته. لذلك يصبح أمراً مستغرباً حين ترى هذا الاهتمام المبالغ فيه بمتابعة الرأي العام، كما يعبر عنه في وسائل الإعلام الجديد تحديداً، ورصد «تغريداته» ومحاولة تكييف السياسة الخارجية وفقاً لحالته، فمن دون تقليل مما يشيع في هذه الوسائل من آراء وأطروحات، فإنها لم تتخلص من المشكلة المتأصلة في الرأي العام عموماً، المتمثلة بالنظرة الآنية المبسطة للأحداث والنزعة العاطفية، وهذه خصائص لا تستقيم مع سياسة خارجية رزينة ومستقرة. ويبرّر الموقف الحذر من الرأي العام، طابعه المتقلب وسرعة تلاشيه وتحوله من قضية لأخرى، ما يتطلب من المسؤول إدراكه (أخذ العلم به) من دون الوقوف الطويل عنده، دع عنك التأثر به. فبقدر ما يسرت وسائل الإعلام الجديد للرأي العام انتشاره أضعفت تأثيره، بسبب تضاعف سرعة تلاشيه، ولعل في ظاهرة «الوسوم» التي ينظر إليها بوصفها تعبيراً عن موقف عام من قضية «ما» ولا تستمر سوى فترة لا تتجاوز في الغالب 24 ساعة، دليل على هذا الضعف، مقارنة بالقنوات السياسية التقليدية التي تحَول الرأي العام إلى توجهات تسهم في تشكل برامج عمل لدفع الحكومات إلى تبني مواقف أو تغييرها. ومن المهم أيضاً أن ندرك أن ما يبدو أحياناً رأياً عاماً عفوياً، قد يعبّر في الواقع عن موقف سياسي لجهة أو تنظيم يمرره باسم «رأي عام»، فهذه التنظيمات لا تقل عن الحكومات إدراكاً لأهمية توظيف وسائل الإعلام الجديد لتحقيق أجنداتها. وقد يسرت لها هذه الوسائل التحرك والتعبئة من دون متاعب التنسيق والتخطيط التقليدية. خلاصة الأمر؛ إذا كان على الحكومات ملاحقة وسائل الإعلام الجديد لسبر الرأي العام لتكييف سياساتها الداخلية وبرامجها بما يتوافق معه قدر الإمكان، فإن تعقيد قضايا السياسة الخارجية وتعدد محدداتها وأطرافها وحساباتها المختلفة، وكذلك المصالح العليا التي تعبر عنها، حري بأن يعفي المسؤول والجهاز المساند له من عبء هذه الملاحقة اليومية لطيور تغرد عن كل شيء. * أكاديمي سعودي. نقلا عن الحياة اللندنية