مع التغيير الحكومي الجديد في العراق، بدأت تتعالى الأصوات المحلية والعالمية الداعية إلى عراق ديموقراطي جديد ومتطهر من أدران النظم السياسية السابقة، التي التصقت بجسم التاريخ العراقي الحديث. الكل يتحدث عن الديموقراطية الخالصة. الكل يدعو إلى النظام السياسي ذي الزخم الحركي الداخلي المعزول عن أية قوى خارجية. الكل يتطلع إلى استيراد التجربة البلجيكية أو السويسرية ذات الديموقراطية التوافقية وإلباسها سمرة أهل الرافدين. الكل يرسم الأحلام الوردية في واقع غير ملون! لكن السؤال يبقى: هل يمكن تحقيق الأحلام لمجرد الرغبة في تحقيقها، أم يلزم لذلك تمهيد الطريق للحلم، ومن ثم العمل على آليات استجلابه قبل التفكير في الدخول في تفاصيل عمليات تحقيقه؟ الآن تراجعت فتنة السيد نوري المالكي، وأصبح، أو سيصبح عما قريب، الدكتور حيدر العبادي سيداً لمجلس الوزراء العراقي، فما هي أولويات الساسة العراقيين التي ينبغي عليهم العمل عليها لتحقيق السلم الأهلي والرفاهية الشعبية. أولاً، الديموقراطية، كلمة مخادعة ومخاتلة ومتلونة وغير ذات معنى في واقع الوطن العربي المعاش. وعندما نتحدث عن الديموقراطية في الوطن العربي فإننا كمن يتحدث عن أهمية وجود الفاكهة على مائدة شعب يموت جوعاً! أو كمن يتحدث عن الشروط الواجب توافرها في فوانيس الإضاءة وهو لا يمتلك مولد كهرباء في الأصل! وبالتالي فلا يظن أحد أن الديموقراطية لازمة لبدء المرحلة العراقية الجديدة، بل لا يظن أحد أن العراق قادر على القيام من جديد إن تم تفعيل آليات الديموقراطية الحقيقية كما نعرفها! الديموقراطية لا مكان لها الآن في العراق، وعلى الجميع ساسة وشعباً أن يعرفوا أنها غير قابلة للتحقق بمجرد الرغبة في وجودها، وإنما هي ثمرة جهود مخلصة ومشتركة في المجالات كافة. هي نتيجة وليست سبباً، وبالتالي فعلى الدكتور حيدر العبادي وفريقه ألّا يخضعوا لآليات الديموقراطية الصرفة عند بدء مهماتهم الحكومية، لأن ذلك سيجعل من (الصفر) منطقة للحركة بسبب التجاذبات الديموقراطية في بيئة غير ديموقراطية. ينبغي على العراقيين أن يعرفوا حجمهم جيداً، فهم ليسوا سليل تجارب ديموقراطية عريقة قابلة للاسترجاع في أي وقت. ما عليهم فعله الآن هو تفويض النخبة لبناء الدولة من الصفر، ثم العمل بعد ذلك (أعواماً أو حتى عشرات الأعوام) على صناعة أساسات جيدة ومتينة قابلة لبناء مستقبل ديموقراطي عليها. ثانياً، على الشعب العراقي أن يعي أن هذه الفترة ليست فترة ديموقراطية كما ذكرت، وبالتالي فعليه تحصين قرارات حكومته من الطعون النظرية المعارضة التي تعتمد على المنافسة الحزبية والمصالح النخبوية الضيقة. العراقيون اليوم، على اختلاف هوياتهم ودياناتهم، مطالبون بالوقوف صفاً واحداً خلف الدكتور حيدر العبادي بصفته قائداً لكل العراقيين، وعليهم أن ينسوا تماماً أنه ممثل لحزب الدعوة الشيعي. وعليه هو أيضاً أن يستقل بنفسه ويتخلص من أعباء الفئوية التي يمثلها، ليتمكن من قيادة العراق إلى بر الأمان. ثالثاً، العراق دولة عربية كبيرة، وله أهمية بالغة في محيطه الإقليمي، ولا ينبغي له ولا لمثله أن ترهن قراراته السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية لقوى إقليمية، ربما تكون أقل منه أهمية وتاريخاً. العراق اليوم يستطيع النهوض بمساعدة أصدقائه، لكنه بلا أدنى شك قادر على السير بمفرده وبدعم من مكوناته الداخلية الغنية جداً، من موارد طبيعية وثروة بشرية وموقع استراتيجي، وهذا ما سيجعله في منأى عن تأثير المشكلات بالمنطقة في حراكه الداخلي. رابعاً، دائماً كنت أردد: عندما يتدخل رجال الدين وزعماء العشائر في العملية السياسية فبشرها بالخراب! فهؤلاء ليسوا إلاّ متمصلحين يبحثون عن تكريس وجودهم بشتى الطرق، ولا تعنيهم المصلحة العامة بقدر ما يعنيهم بقاء قدسيتهم في قلوب تابعيهم. يأتون إلى السياسة وهم الجاهلون بعوالمها، ليضعوا على صدورهم نياشين جديدة لا أقل ولا أكثر. العراقيون اليوم مطالبون بتعويم رجال الدين وزعماء العشائر، وتركهم يواجهون مصيرهم في حال مدنية خالصة. خامساً، خلال الأعوام العشر المقبلة يحتاج العراقيون إلى التركيز على بناء عراقهم، والبعد عن إدخال بغداد في المشكلات الإقليمية الدائرة الآن. عليهم ألّا ينحازوا إلى أي طرف، ثم يعيدون تقييم تجربة «عدم الانحياز» بعد 10 أعوام، فلربما صنع منهم ذلك سويسرا الشرق الجديدة نقلا عن الحياة