العقل المقاصدي عقل شمولي تحتاج إليه الأمة اليوم أكثر من أي عصر نظراً لكثرة حفّاظ المسائل الفقهية الذين لا يحسنون ربط الجزئيات الكلية، لذلك تجد مسائل متعلقة في باب الاستحسان نتجت من تغير الظروف ومع ذلك لا يستطيع حفّاظ المسائل الفقهية تكييفها بذلك، بل يصرون على الحكم الأصلي ويتركون الأمر العارض مع أن في ذلك معارضة للكليات والمبادئ العامة للشريعة الإسلامية، ولكن أصحاب هذا الرأي لا يحسنون توصيف الحالة الطارئة وتكييفها، بل يستمرون في ترديد الحكم الأصلي، ومثل هذا في سد الذرائع، لذلك لا تجد استقرارا في علل الأحكام، فتجدهم في باب زكاة الفطر يرفضون إعطاءها قيمة تمسكاً بظاهر النص (صاعاً من طعام) ولم يلتفتوا إلى المعنى العام (أغنوهم عن الطواف هذا اليوم)، لكنهم في أبواب أخرى يأخذون بالمعنى مثل القول بجواز السفر بلا محرم مع أن ظاهر النص يمنع، ولكن تم النظر هنا إلى العلة، وهي أمان الطريق، فما الفرق بين الحالتين؟ هل المعتبر المعنى أم ظاهر النص؟ وهل ينسجم المعنى مع القواعد العامة للتشريع أم لا؟ لذلك من المهم توضيح فكرة مهمة وهي أن المعتبر في دراسة الفقه معرفة كيف ظهر هذا الرأي وعملية استنباط الحكم، فهذه العملية العقلية في ذهن الفقيه هي التي تُخرج الرأي الناضج المرتبط بالواقع، فإذا كان الرأي قد ظهر بسبب ظروف معينة أثّرت في الحكم الأصلي فهل بقيت هذه الظروف، مثل زيادة حد الخمر في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. والعقل المقاصدي ثمرة تلك العمليات الفقهية في ذهن الفقيه لكون العقل أعلم بمقتضى العلم المُحصّل عن العلوم النظرية، وهذا العلم نتيجة حركة الفكر التي تقوم على الانتقال والإفضاء من الدليل إلى المدلول، ومن المقدمة إلى النتيجة، ومن الوسيلة إلى الغاية، ومن الحال إلى المآل، وهذه الحركة ناتجة من القوة المتهيئة في العقل وهي الملكة القابلة للإدراك وتحصيل العلم المدرك والنفوذ إلى المعاني والحِكم الشرعية المستبطَنة في نصوص الشريعة، وهو المعنى القائم في قوله تعالى: "وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ" - العنكبوت: 43، هذه الحركة لا بد أن تكون منفعلة ومتفاعلة مع الشرع أحكاماً ومقاصد، وهذا ما يعني أن العقل المقاصدي ينظر إلى ما وراء ظاهر النص للكشف عن أسراره وحِكمه ومعانيه التي قامت عليها أحكامه وليس معنيا بأن يشرّع. والعقل المقاصدي يقوم بانفعالات ذاتية تتم عبر ثلاث مراحل هي: - مرحلة التلقي: تتعلق بتلقي نصوص الشرع وإدراك طبيعة وخصائص الوحي وأساليبه وقواعده المبثوثة في علم أصول الفقه. - مرحلة الفهم: تقوم على ربط النصوص الشرعية بمناطاتها وما يرتبط بها من المعاني الشرعية والظروف الواقعية، وتتوقف على استجلاء مقاصد الأحكام على اختلاف مستوياتها مع اعتبار أن كل نص ينبني عليه تكليف يلزم أن يحقق مقصداً، وهذا المقصد إما نص عليه النص مباشرة، وإما أوكل إلى العقل البحث والتقصي عنه من خلال ربط الأحكام بمقدماتها وعللها. - مرحلة التنزيل: التي تعني بالصيرورة الواقعية للتشريع، وهي على الحقيقة الثمرة المرجوة، إن سلم منهج التلقي وصح الفهم، باعتبار أن هذه المرحلة مرحلة التفاعل المباشر مع الواقع تصوراً وإدراكاً وحكماً من خلال التنسيق الإيجابي بين مضامين الدين الصحيحة وبين الواقع، ومن خلال ترسيخ القناعة بالثوابت وكيفية التعامل مع المتغيرات حسبما يقتضيه الشرع. هذا المنهج هو الذي يعطى للنصوص صفة المعيارية في تقدير المصالح، وذلك باعتبار أن النصوص لا تقدم دائماً إجابات تفصيلية عن المصالح والمفاسد، كما أن تراثنا لا يقدم حلولاً جاهزة لمشكلاتنا المعاصرة، لكنه يقدم أصولاً مرشدة، فيكون من مهام العقل المقاصدي المعاصر إذن أن ينظر في الماضي، لكن دون أن يعطي لنفسه الحق في إبداع شيء جديد لا يرتبط بهذا الماضي، بل الواجب عليه دمج معطيات التراث في حاضره، وإخضاع الحاضر لأصول الماضي، ضمن قواعد فقه الأولويات، والإشكال الكبير أن يتصدر لهذه الأمور مَن ليس لديه الدراية التامة بمعاني التشريع ولا يعرف آلية التعامل مع قواعد أصول الفقه، وبالتالي يطبق ظاهر النص دوما وأبداً سواء كان هذا النص عاماً أو خاصاً، وهذه النزعة الظاهرية موجودة لدى البعض في التعامل مع قواعد شرعية نظرية مثل باب سد الذرائع، ويمكن أن نضرب لذلك أمثلة معاصرة: أحد المشايخ قديماً يقول: 1- لا بد من أن نمنع تعليم المرأة. 2- لأن في تعليمها خروجا من المنزل (مقدمة الذريعة). 3- وفي الخروج من المنزل أضرار واختلاط بالناس (الذريعة). 4- لذلك لا بد من أن نمنعها من التعلم! (نتيجة سد الذريعة). وليس هذا مقتصرا على علماء الشرع، بل حتى علماء الاجتماع، يقول سبيك يور مايند: 1- يجب علينا ألا نمنع تدخين السيجارة. 2- لأن منعها سيدفع الناس إلى تعاطي المخدرات كبديل (مقدمة الذريعة). 3- وبذلك سترتفع معدلات الجرائم (الذريعة). 4- ومن خلال هذا علينا منع الجريمة بإتاحة الفرصة للآخرين بتدخين السيجارة! (نتيجة سد الذرائع). التحليل المبني على فساد المقدمات يؤدي في الكثير من الأحيان للكثير من الأخطاء في الأحكام والقرارات، وتوجد مئات الأمثلة على الخطأ في تقدير الحالات نظراً لوجود خلل في مرحلة التنزيل التي أشرنا إليها أعلاه. 1- فتعلم المرأة يؤدي إلى ارتفاع مستوى الفكر عندها. 2- ارتفاع مستوى الفكر عند المرأة يحميها من أضرار الاختلاط. وأيضاً: 1- منع التدخين يقلل من الأمراض ويوفر المال الذي تدفعه مقابل السيجارة. 2- توفير المال والصحة يبعدك عن المشكلات والجرائم. وفي النهاية قد تكون المسألة نسبية في الموازنة حسب العرف والنشأة. وتذكر أنه بإمكانك بواسطة تصور خاطئ لأن تبني أي حُكم أو استنتاج فاسد على خطأ بسيط يتم تضخيمه بشكل مُبالغ به. نقلا عن الاقتصادية