سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
العلماء بحاجة إلى مشاركة جميع الفئات الواعية من المجتمع في دعم عمليتهم التصحيحية د.حاتم الشريف: سد الذرائع أصل صحيح، لكن له شروطه التي كثيرا ما يتم تجاوزها
الشريف الدكتور حاتم بن عارف العوني، عضو مجلس الشورى، والمتخصص في العلوم الشرعية، من مواليد مدينة الطائف سنة 1385ه، ومن خريجي جامعة أم القرى، في تخصص علوم القرآن وعلوم السنة، كما درس على العديد من العلماء الأجلاء في المملكة والمغرب واليمن وغيرها من الدول العربية والإسلامية. للدكتور العوني الكثير من المؤلفات العلمية والرسائل، بالإضافة إلى مشاركات متعددة في مؤتمرات إسلامية عالمية، والعديد من الفتاوى والاجتهادات والمراجعات لما هو سائد من أفكار وفتاوى، وقد أثار مؤخراً الكثير من النقاش والجدل في مقالة له حول قبول الاجتهاد الفقهي في المملكة، وموقف العلماء من هذه الاجتهادات التي تواكب التغيير والإصلاح، وما أدى إليه رفض بعض هؤلاء العلماء للآراء التي تخالف ما استقرت آراؤهم عليه. في حوار ل(الرياض) مع د.العوني، تحدث عن ضيق الأفق لدى العلماء الرافضين للاجتهادات، وعن الخلط بين العادات والتقاليد الاجتماعية الراسخة وبين الدين، وأشار في حديثه إلى قسمي المدارس الفقهية في استثمار مقاصد الشريعة لفهم النصوص، وأشار إلى الدور الذي يجب أن تقوم به فئات المجتمع الواعية لدعم تجديد العلماء في الفقه، وقد جاء في الحوار: • ما سبب عدم وجود جيل جديد من الفقهاء يقومون بصياغة رؤى فقهية تجديدية مواكبة للتغيرات الاجتماعية في المجتمعات الإسلامية ؟ لذلك أسبابٌ عديدة ، من أهمها : - ضعف العلم الشرعي عند كثير من المنتسبين إليه . - شيوع التقليد . - طرق تدريس العلوم الشرعية المعتمدة على الحفظ والتلقين ، والتي تُضعف كثيرا ملكةَ الاجتهاد والإبداع . - ضعف العلم بالواقع ، يؤدي إلى عدم الشعور بالحاجة للتجديد ، وهذا بحد ذاته عائق كبير دون التجديد ، ولو تم الشعور بالحاجة إليه لحصل ، فالحاجة أم الاختراع . ومسؤولية تصحيح ذلك تقع على الحكام والعلماء وكل مسؤول عن قطاع التعليم . • هل كانت المدارس الفقهية السائدة في العالم الإسلامي وتكتلها كان عائقاً أمام اجتهاد الفقهاء خارج هذه المؤسسات؟ أي تكتّل لا يقوم على أساس تنظيمي محض (يُقصد به تنظيم العمل), ولا يلتزم بأحكام الإسلام في التسامح مع الرأي المختلف , بل يقوم على تحزّب لشخص أو مبدأ من المبادئ التي لا يجيز الإسلامُ نفسُه التحزبَ عليها = فستكون له العديد من الآثار السلبية , ومن بينها : أن يكون عائقا أمام الاجتهاد الذي لم يلتزم صاحبُه بضيق ذلك التكتل . فالصحابة -رضي الله عنهم- قد اختلفوا في مسائل الفقه , وكذلك التابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم . ولم يكن ذلك الاختلاف إلا سببا من أسباب ثراء الفقه الإسلامي , عندما كان هناك تسامح منضبط مع الاختلاف . • لماذا برأيك يتم التشنيع على اجتهاد المجتهد حتى دون النظر إليه ..بل بمجرد اختلافه مع الحكم الفقهي المستقر .. ونأخذ كمثال تفصيلكم في حكم الاختلاط وتحديد ضوابطه ..وكذلك رأيكم في قضية تأنيث المحلات النسائية؟ وما دمت تسأل عن سبب التشنيع بغير حق , ولا تسأل عن التشنيع بحق , ولا تسأل عن مجرد المخالفة دون الإساءة ؛ فالجواب هو : أن لذلك أسبابا عديدة , قد تجتمع في شخص , وقد يوجد بعضها دون بعض في شخص آخر , ومن أهمها : - عدم اتضاح ضوابط التفريق بين الاختلاف المعتبر وغير المعتبر , فمع أن عامة المتخصصين في العلوم الشرعية يقسمون الاختلاف إلى هذين القسمين البدهيين , إلا أن الضوابط التي تفرق بينهما، التي يذكرها بعضهم (ممن يذكرها) غير منضبطة عند أكثرهم , وبالتالي تؤدي إلى خلل في التعامل مع الاختلاف . بالتشنيع على قول بحجة أنه غير معتبر , مع أنه في الحقيقة قد يكون اختلافا معتبرا . - التعصب للمعظَّمين من العلماء , دون محاكمةٍ لأقوالهم بعرضها على الأدلة . - صعوبة الاعتراف بالخطأ على أكثر الناس , والعلماء منهم , وإن كانوا أولى من نجا من هذا النقص البشري . فتخيل عالما يمكث عشرات السنين يفتي بقول , وربما شدّد على صحته وبطلان ما يخالفه (بسبب عدم مراعاته لكون القول الآخر خلافًا معتبرا) , وربما ألّف في ذلك , وتخرّجَ طلابه وهو يقرر لهم ذلك الحكم . هل سيكون من السهل على نفسه الاعترافُ بأنه كان مخطئًا طوال تلك السنين ؟! كيف سيكون موقفه أمام طلابه , والذين ربما أخذوا عنه قوله ودرسوه لطلابهم كذلك؟! هل من السهل أن يقول : إن الرأي الذي كنت أشنع عليه هو القول الصحيح ؟! ولذلك كان الاعتدال في نقد القول المخالف من أكثر الأشياء المعينة على الرجوع إلى الصواب , وعلى الاعتراف بالخطأ . - ضعف الوازع الديني الذي يجعل حظوظ النفس والانتصار لها مقدّمًا على معرفة الحقيقة وعلى تقرير الحكم الذي هو أولى بأن يكون هو حكم الله تعالى . ومع أن العلماء حقا من أبعد الناس عن ذلك , لكن لا يخلو من أن يُوجد في العلماء من هو كذلك . - مع أسباب الضعف العلمي في العلوم الشرعية التي سبق ذكرها . • في حديثك عن ضوابط الاختلاط ( ألا يحصل تلامس جسدي بين الرجل والمرأة – ألا يحقق الخلوة – ألا يصاحبه طول المكوث) وضعتم رؤية واضحة وضوابط محددة يندر أن يفصل فيها الفقهاء اليوم .. ما الذي يمنع الفقيه اليوم من تحديد أفكاره ورؤاه وعدم التعميم والتحريم بالمجمل كما نرى في كثير من الفتاوى المتداولة بين الناس ؟ - هناك أسباب عامة , هي ما سبق في جوابي على سؤالك الأول . وهناك سبب خاص متعلق بهذا الموضوع , الذي اختلطت فيه بعض العادات والتقاليد بأحكام الدين , مع المبالغة في الحذر من الوقوع في الحرام مبالغة تتجاوز الحدَّ المطلوب , وهو التطبيق الخاطئ لأصل سد الذرائع , الذي هو أصل صحيح ؛ لكن له شروطه التي كثيرا ما يتم تجاوزها . • هل يمكن للتعددية الفقهية في مؤسسات الإفتاء في العالم الإسلامي أن تفيد في التجديد الفقهي ؟ - التعددية والتسامح هما قاعدة الإبداع والتجديد . فالتسامح أساسُ الإبداع ؛ لأن الإبداع وليد المحاولات الفاشلة والأخطاء التي تنتهي إلى الإبداع , والتسامح هو التعايش مع الرأي الآخر ولو كان خطأ . ولذلك كان لا بُدّ من إشاعة روح التسامح ؛ لتعود روح الاجتهاد إلى جسد العلم . وقد قلت في مناسبة سابقة : إن لم نسمح بقدرٍ من الخطأ , لن نسمح بأيِّ قدرٍ من الإبداع . • كيف تقيم التجديد الفقهي الذي دار فيما يسمى ب"فقه الأقليات" لدى علماء المسلمين في الدول الغربية ؟ - مجرد الإقرار بأن الأقليات تحتاج إلى فقه يراعي واقعها , هذا بحد ذاته إبداع وشيء جيد . ويبقى الحديث عن جزئيات المسائل والترجيحات فيها , فهي تختلف إجادة وإخفاقا من باحث لباحث ومن مسألة لأخرى . •ارتهنت القضايا الاجتماعية إلى السجالات الفكرية بين أطياف المجتمع .. كيف يمكن قراءة أثر هذا الارتهان على الاجتهاد الفقهي؟ وكيف تقيم اليوم ارتهان الفقهاء للعادات والتقاليد المجتمعية خاصة في الشؤون المتصلة بالمرأة ..مما جعل الفقه يساير العادات والتقاليد لا مقاصد الشريعة وكلياتها؟ لئن كان العالم كله يمر بمرحلة جديدة في ظل العولمة , فمجتمعنا يمر بمرحلة في غاية الجدة وفي غاية التسارع ؛ لكونه من أكثر المجتمعات الإسلامية محافظة على الدين وعلى العادات والتقاليد . ولذلك لا نستغرب أن يكون السجال الفكري عندنا -مع أنه ظاهرة صحية- إلا أنه ربما انحرف عن مساره الصحيح في إنضاج الأفكار , وصار سببا في بعض الأحيان للتأزم . لكني أرجو مع امتداد الزمن , ومع محاولة العقلاء تصحيح مسار السجالات الفكرية , وأن تؤتي ثمارها. وهذا مما ينبغي التعجيل في العناية به , دراسة وبحثا وتأصيلا وعملا , لكي نرتقي للمستوى المفيد من السجالات الفكرية . أما فيما يتعلق بارتهان الفقهاء للعادات والتقاليد : فالفقهاء جزء من المجتمع , ولا شك أنهم يخضعون لنفس الضغوط التي تؤثر على انطلاقتهم الاجتهادية . وإذا كان الفقيه مقلدا (لا يفقه وإنما يحفظ الأحكام), فسوف يكون رهينَ غالب تلك العادات ولا شك . ومجتمعنا السعودي مجتمع عريق العادات , وتتعمق فيه العادات إلى جذور عميقة , منها ما يرجع إلى الدين , ومنها ما يرجع إلى أعراف قوية الثبات والرسوخ , ولذلك ربما اشتبهت بالدين . ومن تلك الأعراف ما كان صالحا في زمن مضى , ولا يصلح في هذا الزمن , ومنها ما لم يزل صالحا حتى في هذا الزمان . والتمييز بين ذلك كله صعب جدا , والصدع به بعد معرفته أصعب . والعلماء حقا (لا المقلدون في ثياب العلماء , ولا الحُفّاظ في لباس الفقهاء) لا يسايرون العادات والتقاليد , بل يميزونهما عن الدين , ويميزون الصالح من العادات من غير الصالح . لكنهم يحتاجون إلى جرأة لبيانها , وقد لا تتوفر هذه الجرأة في كل عالم , ويحتاجون أيضا إلى تشارك جميع الفئات الواعية من المجتمع في دعمهم على عمليتهم التصحيحية . • كيف ترى استخدام القواعد الفقهية " كقاعدة سد الذرائع " في الفقه المحلي المعاصر.. خاصة بعد أن تحول استخدام القاعدة الفقهية على يد متأخري الحنابلة إلى باب الحياة الاجتماعية إن صحت التسمية بينما كان استثمارها الأصلي عند فقهاء المذهب المالكي في باب البيوع ..وهذا ما أهمله متأخرو الحنابلة ؟ أصل سد الذرائع حُكي فيه الاختلاف , والراجح أنه أصل متفق عليه , لكن يقع الاختلاف في جزئيات المسائل . وليس له باب معين دون باب , لا عند الحنابلة ولا عند غيرهم . لكن له شروط لضمان صحة تطبيقه , من أهمها : أن تحريم الحلال بحجة سد الذرائع لا يكون صحيحا إلا إذا كان الوقوع في الحرام بسبب ذلك الحلال أمرا راجحا رجحانا لا شك فيه (في أقل تقدير) , وأن لا يكون هناك وسيلة لسد الذريعة بذلك الحلال إلى الحرام إلا من خلال تحريمه , أما لو أمكن سَدُّ الذريعة إلى الحرام بغير تحريم الحلال فلا يجوز تحريمه بحجة سد الذريعة . فمثلا : معارضة تعليم البنات التي وقعت سابقا , بحجة سد الذرائع : ألم يكن من الممكن وضع ضوابط تمنع من الحرام , بدلا من تحريم الحلال ؟! لا شك أن هذا كان من الممكن , بل هذا هو الواقع المشاهد اليوم . وأمثلة ذلك عديدة , تلك التي لا تتوفر فيها شروط استخدام (سد الذرائع) في محلها , فيقع الخطأ في استعمال هذا الأصل الجليل المتفق عليه , وتكون سببا في إساءة الظن فيه وفي العلماء . • ألا تعتقد أن عدم تمكن الفقهاء من أصول الفقه ..وتغييبهم لكليات الشريعة أو بعض الأفكار التجديدية كرؤية مقاصد الشريعة كما صاغها الإمام الشاطبي أو المصالح المرسلة وغيرها ..أعاق تقدم العقل الفقهي الذي تحول إلى عقل نصوصي ..جمد على النصوص ولم يحسن الاجتهاد فيها مع كثرة المتغيرات والنوازل؟ - لا أرتضي التعميمات التي جاءت في هذا السؤال وفي غيره , فليس كل الفقهاء كذلك . أعترف أن قلةً من الفقهاء المعاصرين من يحسن هذه الأصول والمنطلقات المهمة في فهم النصوص , ولذلك قل القادرون منهم على إعطاء الحل الإسلامي الصحيح في كثير من القضايا المستجدة . كما أعترف أنه هناك مدارس تجاه إعمال المقاصد في فهم النصوص , من أهمها مدرستان , كلتاهما تقرر نظريا أهمية النظر في المقاصد , لكن إحدى هاتين المدرستين تنظر إلى أن إعمال المقاصد في فهم النص موضعُ اضطرارٍ , فلا تلجأ إليه إلا عند أن تكون مضطرةً إلى ذلك مجبرةً عليه (اضرارا علميا غالبا , كاختلاف النصوص) . والمدرسة الفقهية الشائعة في السعودية هي هذه المدرسة , وهي أضيق في مراعاة المقاصد من المدرسة التالية . والمدرسة الأخرى على العكس : فترى أن إعمال النظر في المقاصد لفهم النص الشرعي ضرورةٌ لصحة الفهم ابتداءً , فلا تفهم النص إلا بعد النظر في مقصده مطلقا ؛ إلا في النصوص التي مقصدها هو التعبّد والتسليم وحده . وهاتان المدرستان قديمتان قدم الإسلام : كما حصل من اختلاف الصحابة في فهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا يصلين أحدٌ العصرَ إلا في بني قريظة)) , ففهم بعض الصحابة هذا الأمر على ظاهره , وفهم آخرون أن المقصود الاستعجال وعدم التأخر فصلوا قبل الوصول لبني قريظة , فما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أحد الفريقين . لكن لا شك أن من فهم مقصود النص أسعد حظا بالفقه فيه , ممن توقف عند ظاهره . •كيف تقرأ أثر التشنيع على المجتهد ومحاولات اسقاطه لمجرد اختلافه مع الأفكار السائدة في المجتمع ؟ - هذا خطأ كبير , وحجر عثرة أمام الإصلاح . ولا يصح أن يبقى في زمن توسّعَ الاختلافُ فيه , ليخرج عن دائرة اختلاف فقيهٍ وفقيه آخر , ليشمل اختلافَ الأديان والثقافات والحضارات . فضيق العطن بالاختلاف المعتبر الصادر من الفقيه , في مثل هذه المرحلة , يدل على ضيق أفق بالغ , وعلى تأخرٍ كبيرٍ لدى من وقع منه ذلك عن منزلة العالم المجتهد : الذي لا يضيق بالاختلاف الفقهي المعتبر أصلا , والذي يجب أن يحسن تناول بقية أنواع الاختلاف الأكبر , وأن يعرف كيف يفهم أصحابها , ليحسن حوارَهم , وعَرْضَ ما لديه .