تستضيفه السعودية وينطلق اليوم.. وزراء الأمن السيبراني العرب يناقشون الإستراتيجية والتمارين المشتركة    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    البرهان يستقبل نائب وزير الخارجية    كاساس: دفاع اليمن صعب المباراة    قدام.. كلنا معاك يا «الأخضر»    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    إحالة ممارسين صحيين للجهات المختصة    جواز السفر السعودي.. تطورات ومراحل تاريخية    حوار «بين ثقافتين» يستعرض إبداعات سعودية عراقية    5 منعطفات مؤثرة في مسيرة «الطفل المعجزة» ذي ال 64 عاماً    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مترو الرياض    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فقه التوقع.. دعوة لاستشراف أحداث المستقبل ودرء للخلافات الفقهية

انقسم علماء وفقهاء حول أهمية فقه التوقع والحاجة إليه، ففي الوقت الذي طالب فيه البعض بضرورة تطبيق "فقه التوقع" لحاجة الأمة الماسة إليه في هذا العصر الذي كثرت فيه عمليات استشراف المستقبل، يقف آخرون موقفاً مؤيداً له، مشيرين إلى ضرورته، وأن القرآن قد أظهر هذا الفقه وطبَّقه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، وعارض بعضهم هذه الدعاوى، مؤكدين أن هذا الأمر مدعاة لإضاعة الوقت واستباق الأحداث، وقد يدخل العلماء في دوامة من الكهانة والتنجيم، وليس من الحكمة إشغال العلماء بأمور لم تقع بعد، لأن وقت المسلم أقيم وأهم من الإضاعة في أمور قد لا تحدث وقد لا تحدث. ووقف آخرون موقفاً وسطاً مؤكدين أنه ضرب من الاجتهاد نحتاجه بضوابط وشروط. وأن فقه التوقع مبني على حق الفقهاء في تكوين نظرة عقلية تستشرف المستقبل قبل وقوعه وبناء الأحكام الفقهية اللازمة لهذا المستقبل، من خلال النظر في الواقع، فما هو أصل هذا الفقه؟ وما هي الضرورة التي قد تدعو إليه، وهل الأمة بحاجة إليه فعلاً؟ هذا ما نعرفه خلال السطور التالية: الواقع لا التوقع بداية يتساءل مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبد العزيز آل شيخ عن فقه التوقع وماهيته، مؤكداً أنه لا يدري عنه شيئاً، ويقول: الذي أعرفه أنا هناك فقه اسمه فقه الواقع، أما فقه التوقع فأنا لا أدري عنه. ملابسات وقرائن ومن جانبه بين الشيخ الدكتور صالح السدلان أستاذ الفقه في قسم الدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن فقه التوقع هو ضرب من الاجتهاد، فإذا كان هذا التوقع قوي عند المتوقع وله نظر وقرائن فيمكن أن يعتمد هذا الفقه. أما إذا كان يخلو من القرائن والملابسات فإنه لا يعتبر فقه توقع. وأوضح السدلان أن هناك فرقاً بين فقهي التوقع والافتراض، وقال: بينهما عموم وخصوص، وتقارب، لكن التوقع قد يكون أرجح وأولى من الافتراض. وأضاف بقوله: فقه التوقع له ملابسات وقرائن ودلائل يعتمد عليها المتوقع، كما أن له علاقة بسد الذرائع، لأن الإنسان يتوقع أن يؤدي فعل ما إلى نتيجة محتومة، فيمنعه بناءً على ما يؤدي إليه. كما أن هناك طرق كثيرة للاستنباط يمكن استخدامها في فقه التوقع، وتختلف من شخص إلى آخر، فكل يستنبط حسب ما يتهيأ له من المدارك والتصورات والتخيلات، فإذا كان الإنسان عالمٌ بكل دليل ولم يجب إلا هذا فله استعمال ذلك. وختم السدلان بإيضاح الشروط الواجب توافرها في العلماء والفقهاء المهتمين بهذا الفقه، حيث قال: على الإنسان أن يكون ذا ملكة شرعية قوية، وسعة في الاطلاع والمعرفة بالعلل والأسباب والموانع وكذلك الشروط والمقصود والمنطوق، والمفهوم مخالفة، والمفهوم موافقة، وغير ذلك من الأمور التي يشترط توافرها في المهتمين بهذا الفقه. فقه قديم متجدد من جانب آخر يرى الدكتور نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، أن فقه التوقع مبني على حق الفقهاء في تكوين نظرة عقلية تستشرف المستقبل قبل وقوعه وبناء الأحكام الفقهية اللازمة لهذا المستقبل، من خلال النظر في الواقع، ويقول: التوقع هو قسم فقهي أصيل شديد الأهمية لأن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، ومن مهام الفقيه العمل على إظهار ذلك، ومن الضروري إذن أن يتوقع داخل عمله الاجتهادي أبعاد الحكم كلها، وجوانبه المختلفة من حيث ما يفضي إليه، وحال الناس في بيئاتهم المختلفة معه، وما سيؤول إليه الأمر في الأزمان القادمة، ففقه التوقع عملية استنباطية ذهنية تحمل الفقيه على تتبع مراد الشارع الحكيم من أحكامه، ليدرك أسرار التشريع فيحمل عليها ما استجد في دنيا الناس،ويراد به أمرين أساسيين الأول وهو أمر واجب لا يستقيم الاجتهاد دونه وعلى الفقيه استشراف النظرة المستقبلية في مآلات اجتهاده، وأبعاد الحكم الذي يخرج به في ضوء نظرية المصالح والمفاسد بضوابطها الشرعية، فلابد أن يتوقع الفقيه أبعاد الحكم وجوانبه المختلفة وما يمكن أن يفضي إليه، وما سيؤول إليه الأمر في المستقبل، وينتج عن ذلك أن ما غلب على ظن الفقيه أنه سيؤدي مخالفة للأصول فلابد أن يدفع باسم رعاية المصالح، وهو يستلزم في ذاته دفع المفاسد، والأمر الآخر وهو الفقه الافتراضي الذي يفترض النازلة قبل وقوعها ليضع لها مايناسبها من الأحكام، ويبذل في سبيلها وسعه فتخف عليه وطأة الاجتهاد بعد نزولها، وقد اختلفت آراء المجتهدين في التعاطي مع هذا النوع من المسائل، ولكن مع ذلك فإن الأخذ بالفقه الافتراضي بمعناه السابق هو المرادف لفقه التوقع المطروح في القوت الحالي. استحضار واستشراف ويضيف واصل: فقه التوقع قد يكون حديثاً في مصطلحه ولكنه قديم في معناه وقد استخدمه واضعو الفقه الإسلامي فتجاوز القياس لمراعاة العرف الخاص بالمجتمع وظهور ما سمي ب"المسائل الفقهية "عند الأحناف هو نوع من أنواع فقه التوقع، والأمة اليوم في حاجة ماسة لإقرار هذا النوع من الفقه، خاصة أن استحضار الواقع واستشراف المستقبل في الفقه الإسلامي أمر ضروري، وليس مطلوباً من العلماء اليوم في ظل المستجدات العلمية المتلاحقة أن ينتظروا الأمر الجديد لكي يبنوا أحكامهم الفقهية عليه، بل المطلوب هو السعي لمعرفة هذه المستجدات والاستعداد لها بأحكام فقهية صالحة تخدم المجتمعات الإسلامية ولا تحرمها من المستجدات الحديثة، وأنا من المتحيزين لهذا الفقه وقد كتبت في السابق بحثاً أطلقت عليه مسمى "فقه المستحدثات" ودار معظمه حول العمليات الاقتصادية المتجددة وربطها بالأحكام الإسلامية، لذا فمن المؤكد أن هذا الفقه القديم المتجدد يعد آلية لخدمة المسلمين وتوجههم نحو الأحكام الفقهية الصحيحة ولا علاقة له بالتنجيم أو غيره كما يدعي البعض. أصول التشريع ويوضح واصل أن فقه التوقع يأتي مكملاً لفقه المقاصد وفقه الواقع وفقه الموازنات وأدواته الاستنباطية تنطلق من الفقه الإسلامي ومن القرآن الكريم والسنة النبوية، فالقرآن الكريم مليء بالحديث عن المستقبل وهناك العديد من الأمور التي ذكرها القرآن وتم اكتشاف بعضها وسيتم اكتشاف الكثير منها في المستقبل، وكل هذه الأمور والقضايا المستقبلية تستلزم وجود فقه التوقع واستنباط الأحكام الفقهية للقضايا المستقبلية من القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذا الفقه لا يعني مطلقا تفريغ الأحكام الشرعية من قوالبها كما يتوهم البعض، فللنصوص التي جاء بها الشارع الحكيم ضوابط لفهمها ناقشها أئمة الأصول الفقه، ولا يؤدي فقه التوقع دوره إلا بتضافر الجهود ذات العلاقة بالواقعة، فيؤدي المتخصصين من أطباء ومهندسين كلمتهم الفصل، ثم تعرض القضايا بتصوراتها مجتمعة من قبل الفقيه على النصوص الشرعية لينزل أحكامها على الواقع، وإن فقه التوقع له علاقة مباشرة بقاعدة سد الذرائع، خاصة أنه يعبر عن التوازن في المنح والمنع وضبطهما فقهياً وهما من خصائص الذرائع، وإن مآلات الأفعال تدخل في حقيقتها في سد الذرائع الذي يدخل في منع فعل يؤدي لحرام، فقد يكون الحكم حرامًا، لكن قد يؤدي تحريمه لمحرم أكبر، وقد يكون جائزًا، لكن يؤدي إلى محظور، والفقيه عليه أن يعرف الواقع ليصل إلى المتوقع. تأكيد عالمية الرسالة وعلى ذات النهج يسير الدكتور عبد المعطي بيومي العميد الأسبق لكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية فيرى أن فقه التوقع ينطلق من تكييف واقع الأمة ومستقبلها واستنباط الأحكام الفقهية لها بشكل يجعلها قادرة على التعاطي مع كل جديد وفق أوامر ونواهي الشارع الحكيم، ويقول: هذا الفقه يأتي تطبيقاً عملياً لمبدأ عالمية الدين وصلاحيته كل زمان ومكان، وعلم أصول الفقه والقواعد الفقهية ومقاصد الشريعة تمثل منظومة مترابطة، والاجتهاد لا يمكن أن يعطي ثماره دون أن يجمع المجتهد أطرافها، ويأخذ بشروطها ومجامعها، كما اهتمت الجامعات في الوقت الحالي بالدراسات والأبحاث المستقبلية، فما العيب أن ينسحب هذا الأمر أيضاً على الفقه؟ ويضيف بيومي أن النبي صلى الله عليه وسلم طبق التوقع وكان في معظم غزواته يعلم أمته كيفية التفكير للمستقبل وقراءة الأحداث، وخير دليل على ذلك ما حدث في غزوة الخندق عندما ضرب عليه الصلاة والسلام المعول للصخرة التي كسرت دونها المعاول، فلما ضرب الضربة الأولى وانهار ثلثها ككثيب من الرمل برقت بارقة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إن هذا لهو القصر الأبيض "قصر كسرى"، وقد أعطيت مفاتيحه"، وضرب الضربة الثانية فانهار الثلث الثاني ككثيب من الرمل، وبرقت بارقة فقال عليه الصلاة والسلام: "والله إن هذه للقصور الحمراء "قصور الشام"، وقد أعطيت مفاتيحها"، ثم ضرب الضربة الثالثة فأنهار الثلث الباقي من الصخرة ككثيب من الرمل وقال: والله إن هذه لأسوار صنعاء وقد أوتيت مفاتيحها"، وكان صلى الله عليه وسلم يتوقع أن هذا سوف يحدث فحدث بالفعل فيما بعد، وهذه الأعمال علمنا فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن نتوقع حدوث الشيء ثم نخطط له لاستشراف المستقبل، وأيضاً ذكر لنا القرآن الكريم العديد من المستجدات المستقبلية ومنها قصة سيدنا يوسف عندما توقع أن هناك سنوات عجاف فاستعدوا لها ليتجاوزوا الأزمة قبل دخولها، وكل ذلك يؤكد أن فقه التوقع لاستشراف المستقبل والاستعداد له بالأحكام الشرعية المطلوبة. مطلوب شرعاً ويؤكد الدكتور محمد رأفت عثمان العميد الأسبق لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر وعضو اللجنة الفقهية بمجمع البحوث الإسلامية أن فقه التوقع هو نفسه الفقه الافتراضي الذي أسس له الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، وهذا الفقه ليس بدعة من فقهاء الحاضر، بل هو ما درج عليه العلماء والفقهاء قديما وحديثا، وهو من طبيعة البحث في المسائل الفقهية، ومن عمل المجامع الفقهية وبحث الفقهاء، كما أن البحث في الأمور المتوقعة المعقولة واستخراج الأحكام فيها وربطها بالأدلة الشرعية لا يعارضه أحد من علماء جميع المذاهب والمؤسسات الأكاديمية الشرعية والمجامع الفقهية في العالم الإسلامي. ويضيف عثمان أن المراد بفقه التوقع اجتهاد الفقيه في وضع الحكم الشرعي لما لم يقع بعد من الحوادث المتوقعة، وهو البحث في مسائل لم تحدث، وإنما يقدر حدوثها، وأن أصله في كتاب الله تعالى في مثل قول الله تعالى: "فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكماً من أهلها"، وفي السنة في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: "كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"، وكان حذيفة يسأل: فما أفعل إن أدركني ذلك؟ فكان يدله على ما يفعل، وهذا من افتراض ما قد يحصل والبحث عن حكمه، ونحن في حاجة ماسة اليوم إلى الأخذ بفقه التوقع وليس البعد عنه وإلقائه وراء ظهورنا خوفاً من الوقوع في دائرة الرجم بالغيب، فهذا النوع من الفقه ليس رجماً بالغيب وإنما محاولة لمجاراة الواقع واستشراف المستقبل وضبط ذلك كله بالقواعد الفقهية وهذا أمر لاشيء فيه بل حثنا القرآن الكريم والسنة النبوية على تطبيقه والأخذ به. مصطلحٌ حديث! وبين الدكتور عبد الله بن بيه أن فقه التوقع كان يُسميه الأوائل بفقه الترقب، وقال: فقه التوقع مصطلحٌ حديثٌ لم يكن معروفاً في المصطلحات الفقهية وإنما بعض الكتاب والباحثين أطلقوه إلا أنه في مضمونه صحيحٌ وقد أطلق بعض الأوائل عليه اسم الترقب أو ما أسموه بالمترقبات التي تشتمل على قاعدتين: الانعطافِ والانكشافِ، وقاعدة الانعطاف أن أمراً ما وقع فلما وقع رجع الحكم إلى بداية صيرورته التي أوصلته، أما الانكشاف فهو عبارة عن انكشاف للغيب وبالتالي هذا الانكشاف يجعل حكم التوقع المتفق على حكم ولو كان الفقيه قد ركب عليه أحكاماً، كمثل الحمل الزائف الذي أنفق الزوج فيه على مطلقته فظهر أنه كان حملاً غير صحيح إنما حمل زائف وانتفاخ فإنه يرجع عليها بالنفقة على طريقة الانكشاف، طبعا هذه الأمور قد تكون غير مطلوبة بالنسبة للباحثين لكنها هامة لأنها تلد فروعا للذي يُنظر ، والناس ينظرون كثيرا لكن لا يلد التنظير فرعا فإذا كان لا يلد فرعا فإنه غير مهم ، فقه التوقع يدور في قاعدة سد الذرائع وفي النظر في المآلات فيه سد الذرائع إلا أن سد الذرائع غالباً يكون ترقبا توقعا لمفسدة فتسد الذريعة بتحريم المباح في الظاهر لما فيه من مفسدة ، والنظر في المآلات أوسع من ذلك لأنه تارة يكون لمفسدة "باب سد الذرائع " وتارة يكون في مصلحة فيُباح المحظور أو المفسدة
وهو ما يعبر عنه "بفتح الذرائع" ففقه التوقع إذن يرمي إلى كل هذه المعاني وهناك نوع آخر وهو ما يُسميه الغربيون بالفضول – بمعنى أن الفقيه يفترض افتراضاً وقد يطرح السائل عليه أو بعض طلاب العلم بعض القضايا التي لا وجود لها في الواقع المعاصر فيجيب على هذه القضايا التي قد يتوقع حدوثها وقد لا يتوقع حدوثها ، وقد لا تحدث مطلقاً. وسيلة للتعامل واسترسل بن بيه فقال: لكن هناك افتراضات أخرى قد لا تقع أبدا لكن الفقهاء يفرعون عن الفضول أو ما يسمى "سعة الفقه" وليس هناك ما يسمى بالخيال العلمي عند العلماء مثل الكونيين ولكن هذا النوع يطلق عليه أيضا أنه توقع وإن كان في الواقع قد يكون المتوقع فهو أمر افتراضي واختلف العلماء فمنهم من لا يرى ذلك كمالك رحمه الله تعالى فقد كان يكره الافتراض في مسألةٍ وكان كذلك بعض الصحابة ابن مسعود يقولون دعوه حتى يقع فهذا النوع أيضاً يكون داخلا في المساحة التي يشملها فقه التوقع والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية الراجعة إلى الاجتهاد فهذا تعريف الفقه عند الأصوليين وبالتالي في مرحلة لاحقة عُرف الفقه بالتعريف المعروف للفقه، وهو وسيلة وليس فقهاً مستقلاً فهو وسيلة للتعامل مع وسائل الواقع، كما أن الواقع يعتبر عنصراً من عناصر إصدار الفتوى والنصوص الفقهية والحرية والواقع وهنا الواقع كالمتوقع بمعنى أنه يصبح عنصراً في تشكيل الصورة كاملة فيكون الفقيه على بينة وعلى بصيرة من أمره، وبالتالي عليه أن يهتم بالتوقع كما يهتم بالواقع ليكون حكمه على أساس صحيح. تأصيل فقهي ومن جهةٍ أخرى يؤصل الدكتور هاني بن عبد الله الجبير القاضي بالمحكمة العامة بمكة فقه التوقع أو الفقه الارتيادي فيقول: الفقه: معرفة الأحكام الشرعية العملية، والفتوى: تبيين الحكم الشرعي، والإخبار به، بدون إلزام، والارتياد: الطلب، والقصد، والرائد: من يتقدّم القوم يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث. فهو يبصر لهم ما لا يبصرونه بأنفسهم، ويتقدمهم ليستطلع لهم الحال وينبئهم بما تكون عليه ، وهذا المصطلح لا أعلم أحداً عرَّفه ،ويمكن تعريفه بناء على ما سبق بأنّه: التعرّف على الأحكام الشرعية للمسائل التي يتوقع حصولها، أو تبيين الحكم الشرعي للمسائل التي يتوقع حصولها، ولقد تناول أهل العلم حكم الإفتاء والبحث في المسائل التي لم تقع، وتفاوتت أنظارهم في هذه القضيّة: فجمهورهم على كراهة ذلك؛ استدلالاً بما نقل عن السلف من كراهتهم السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، وعدم إجابتهم عن هذه الأسئلة، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أحرِّج بالله على كل امرئ مسلم سأل عمّا لم يكن؛ فإنَّ الله قد بيَّن ما هو كائن، ومن أهل العلم من ذهب إلى استحباب الإفتاء فيما لم يقع ، وقد فصَّل ابن القيم في هذه المسألة فقال: (إذا سأل المستفتي عن مسألة لم تقع فهل تُستَحَب إجابته أو تُكرَه أو تخيّر؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد حُكِيَ عن كثير من السلف أنه كان لا يتكلّم فيما لم يقع، وكان بعض السَّلف إذا سأله الرجل عن مسألة قال: هل كان ذلك؟ فإن قال: نعم! تكلَّف له الجواب، وإلا قال: دعنا في عافية.والحق التفصيل: فإن كان في المسألة نص من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أثر عن الصحابة؛ لم يُكرَه الكلام فيها. وإن لم يكن فيها نص ولا أثر؛ فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدّرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر ولا مستبعد وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت؛ استحب له الجواب بما يعلم، لا سيما إن كان السائل يتفقَّه بذلك ويعتبر بها نظائرها ويفرّع عليها، فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأَوْلى؛ والله أعلم). مشروعية فقه التوقع! وأضاف الجبير موضحاً مشروعية فقه التوقع فقال: الفقه الارتيادي فرد من أفراد المسائل التي لم تقع، والتي يراد ببحثها الاستعداد للعمل عند وقوعها ،وقد جاءت شواهد من الشرع عليه؛ فمن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم حوادث قبل وقوعها؛ للعمل بها عند وقوعها ،فعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله! إنا نخاف أن نلقى العدو غداً، وليس معنا مُدَى، أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أنهر الدم وذُكِر اسم الله عليه فكُلْ، ما خلا السن والظفر" ومثل هذا التفقُّه ينمِّي المَلَكة ويزيد الاستعداد، ويقوِّي الذهن، وهو من مفاتيح تجديد الفقه وجعله مواكباً لحاجة الناس. قال ابن تيمية: (وما ذكره طائفة من الفقهاء من اجتماع صلاة العيد والكسوف فهذا ذكروه في ضمن كلامهم فيما إذا اجتمع صلاة الكسوف وغيرها من الصلوات مع عدم استحضارهم: هل يمكن ذلك في العادة أو لا يمكن؟ فلا يوجد في تقديرهم ذلك العلم بوجود ذلك في الخارج، لكن استفيد من ذلك العلم: علم ذلك على تقدير وجوده، كما يقدرون مسائل يُعلَم أنها لا تقع لتحرير القواعد وتمرين الأذهان على ضبطها) وإن الملاحَظ الآن على واقع الفقه والفتوى هو البطء الشديد في الاستجابة للمتغيرات، حتى إن الفتوى لتصدر أحياناً بعد تغيُّر الوضع عما هو عليه إلى وضع جديد، وذلك لعدم المبادرة حين ظهور المشكلة أو النازلة، بل يؤخَّر الحكم والإفتاء حتى يتفاقم الوضع وتبدأ الاستجابات الخاطئة ولذا؛ فكثير من المسائل المستجدة هي الآن في حيِّز الفراغ الفقهي، وهذا بلا شك مؤدٍّ إلى زعزعة ثقة الناس بالتشريع. وعدد غير قليل من الفتاوى والآراء الفقهية جاءت استجابة لأسئلة معينة أو أوضاع خاصّة لا تحمل التكامل المطلوب، ولا تعطي صورة حقيقية عن التشريع الإسلامي المواكب لجميع التطورات والتغيرات في الأزمنة والأمكنة، مع أن شأن الفقهاء كان مخالفاً لذلك، فقد فرضوا مسائل لم تقع أو لا يُتصور وقوعها أحياناً استيفاءً للتقييم العقلي، فكان في ذلك من إثراء الفقه وبيانه ما هو معروف. ضوابط فقه التوقع ! وأوضح الجبير طرق لمعرفة ما يجب البحث عنه وحددها بعدة نقاط فقال:" إذا تقرَّر أنَّ العناية ببحث الأحكام الشرعية المتوقع حصول مقتضياتها من نوازل تستجد أو أوضاع تتغير؛ مطلب متوجه؛ فإنّه يمكننا محاولة استطلاع ذلك والتعرف عليه من خلال عدة طرق، منها: الإطلاع على الدراسات المستقبلية في المجالات العلمية والتقنية وغيرها، ودراسة مسيرة وتوجُّه المجتمعات، وإعداد دراسات مستقبلية فقهية، والفقه الارتيادي فقه يدرس الأمور المتوقعة؛ سواء كانت نوازل مستجدة، أو تغيرات تفرض تغيُّراً في الحكم الشرعي، وذلك استعداداً لها ليتلافى الفقيه والمفتي تأخير البيان عن وقت الحاجة ومثل هذا الفقه يحتاج إلى ضوابط تمنع أن يكون نوعاً من التكلُّف المذموم، أو البحث عما لا فائدة منه ومن هذه الضوابط: أن يقتصر البحث في المسائل التي يمكن أن تقع، أو تشهد الحال بإمكان وقوعها دون ما لا يمكن أن يقع، أو لا يشهد شيء بإمكان وقوعها، وأن تقدّم العناية ببحث النوازل التي وقعت فعلاً تقديماً للأهم فالمهم. ولا يسوغ في مقتضى العقل والمصلحة أن يتشاغل الإنسان عما هو واقع فيه فعلاً لمراعاة مُقْبل عليه لا يدري يصيبه أو لا؟، والحذر من التصوّر المغلوط للمسألة، والأصل عدم النَّشْر حتى تبرز الظاهرة، ومراعاة المستقبل في الحال والعكس.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.