ما الذي دفع برجل مصري بسيط لربط جزمة عسكرية على رأسه والسير في مظاهرات دعم للجيش في مصر؟! وما الفكرة من لوحات دعم عملاقة في لبنان تظهر فيها صورة مضخمة للجزمة العسكرية مذيلة بعبارة «فليحكم»؟! وأي خاطرة دارت بخلد السيدة السورية الأنيقة التي تظاهرت في برلين وهي تعلق جزمة عسكرية حول رقبتها؟! على قدر ما توحي تلك الصور بحاجتنا الماسة لجلسات علاج نفسي جماعي إلا أنها تحمل أيضا ترميزا بالغ الدلالة على موجة تجتاح أكثر من دولة ومجتمع في استعادة دور المؤسسات العسكرية واستحسان استبدال بتعسف الإسلام السياسي والاجتماعي تعسف الجزمة العسكرية. والهوس بالجزمة العسكرية وتحويلها إلى رمز وطني ليس احتفاء بالحرية قدر ما هو مفاضلة بين قمع وآخر ورغبة في اختيار نوع هذا القمع وأدواته. لا نريد أن يذبحنا الإسلاميون لكن لا بأس في أن تدوسنا جزمة العسكر.. كأنه لا يليق بنا أن نتحرر من الدوس بالجزم أو الخلاص من القتل باسم الدين معا. ومعادلة استبدال بالإسلاميين قمع العسكر ناشطة على قدم وساق ويروج لها في السياسة وفي الثقافة وفي الإعلام، خصوصا أن عقودا من حكم العسكر في بلادنا قد أسست لعلاقة وطيدة بين شرائح في الإعلام والمجتمع وأجهزة المخابرات. هناك شرائح مدنية في مجتمعاتنا باتت تتماهى مع العسكر بصفتهم بديلا متقدما على الإسلاميين، وتستفيد تلك النخب من حضور إعلامي وثقافي للترويج لذلك.. إذ كيف نفسر السكوت عن مقتل 55 محتجا من أنصار الرئيس المصري المعزول محمد مرسي في مواجهة مع الجيش؟! طغى الهدوء على معظم الإعلام المصري إزاء ما يقدم عليه الجيش وواصل كتبة ومذيعون إغداق المدائح على الجيش المصري وحصر الشرور بالإخوان المسلمين. في لبنان، تاهت عن الإعلام في خضم مواجهات صيدا بين الجيش اللبناني والشيخ أحمد الأسير حقيقة أن مدنيين قتلوا في المعركة وأن أشرطة فيديو تسربت حول تعذيب الجيش اللبناني لموقوفين مات بعضهم جراء الضرب والدوس بالجزم. في سوريا تبدو أخبار وصور افتتاح ضباط كبار لمجسم جزمة عسكرية في اللاذقية منسجمة تماما مع خطاب النظام وممارساته. صحيح أن ما يصح في مصر لا ينطبق حتما على لبنان أو سوريا، لكن هناك ظاهرة تجتاحنا وهي أشبه بمتلازمة نفسية تتمثل في أيقنة الجيش تصل إلى حد جعل جزمة الجندي علامة يجب أن نجعلها إشارة قبول لا بل إشارة احتفال. إنها جزمة، وهي جزمة جندي، والدول المتقدمة تحتفل بعقل الجندي لا بجزمته.. ثم إن الجزمة تعني بين ما تعنيه ذلك الفعل الذي يجعل من الجندي أفقا ومستقبلا. الجندي هنا يدوس بجزمته، وفعل الدوس يترافق عادة مع صور التعسف، وكم دفعنا من أثمان لتعسف الجيوش بعد وصولها إلى السلطة في مصر والعراق وليبيا واليمن وسوريا! مشهد الجزمة العسكرية بات يتصدر مساحة في يومياتنا على نحو ما تجتاح المرضى حمى حادة غالبا ما تقودهم إلى الهلوسة ثم الموت. نقلا عن الشرق الاوسط