ثمة صورة فوتوغرافية نشرت أخيراً في صحف لبنانية: امرأة مسنّة تفترش حجارة متناثرة أمام دارها المهدّمة. وجه المرأة فارغ تماماً. لا حزن، لا يأس. ثمة خواء مبهم، نوع غريب من العجز الأبكم. للحظة ظننت أن الصورة من ذكرى العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006. في بنت جبيل صورة مماثلة لا تزال تعمر ذاكرتي: صبيّة متوردة الخدين تجلس على أريكة حمراء القماشة بمساند وأرجل من معدن فضي. وخلفها فراغ مليء بأكوام حجارة ما كان ذات يوم بيتاً. الصبية ساهمة، الخواء المبهم أو العجز الأبكم نفسه، عجز هو كما اكتشفت لاحقاً أشد أنواع الكمد والحزن والأسى ضراوة الشرح تحت صورة المرأة المسنّة: حلب بعد غارة جوية. الذاكرة البصرية غادرة لا تستأذن أحداً. انبجست على الفور صور متتالية من دون استئذان: قرية أم البقر المصرية التي مسحتها طائرات ف 16 الإسرائيلية تراباً، أطلال القنيطرة السورية المدمرة، ملجأ العامرية المليء بجثث صبايا متفحمات. لكن هذا المشهد هو إنجاز الجيش السوري، إنجاز عربي الهوية. قبله كان الجيش الليبي قد دشن صفحة الإبداع التدميري يوم أنزل المضادات الرباعية، وهي سلاح دفاع جوي ضد تظاهرات مدنيين. ليس ثمة خطأ في كراريس التدريب والتوجيه العسكري، ثمة خطأ في بناء هذه المؤسسة وفي علاقتها الخفية المموهة بقمة السلطة - الدولة. لقد سهونا عن معاينة هذا الخلل المدمر بسذاجة نادرة أو عماء مطبق أو عن خفوت الحد النقدي في التفكير تردداً أو تنازلاً أو ترسيماً لأولويات أكبر. لعل العذر الوحيد هو أن قوة الدولة بدت على مثالبها ضرورة لدرء خطر داهم. النخب الحاكمة التقطت هذا الهاجس وحولته إلى سيف ديموقليس شاهرة إياه فوق الرؤوس اليانعة والتالفة. كل نأمة نقد كانت تفسر اعتداء على مصير الأمّة حتى لو جاء من الأمّة نفسها. هل من أمّة تعتدي على نفسها؟ سلوك الجيوش خلال حركات الاحتجاج العربية متفاوت بالطبع لكن المسار العام (ما عدا حالة تونس الأكثر ارتقاء بالمعنى الحضاري) هو احتكار حق تمثيل الأمّة ودوسها بالجزمة العسكرية (هذا مجاز باهت قياساً إلى حمم الطائرات والدبابات). ولعل سورية والعراق ومصر واليمن (قبل الجزائر وليبيا والسودان) هي الدول السباقة إلى اعتماد النموذج الأتاتوركي، الجيش المالك، الجيش الأوتوقراطي، الحامي بلا حماية، المستبد (العادل؟) الماسك بالرائح والغادي. واليوم تقدم لنا سورية مشهداً تراجيدياً كاملاً يقابل فيه أصحاب الخوذ المجتمع بأسره. وما حسبه بعضنا تاريخاً ساد وباد، يطل علينا بصفته حاضراً قام وعاد. جيوش الأربعينات والخمسينات شغلت الكل بانقلابات لا تنتهي، وانقلابات لتصحيح الانقلابات. يومها كانت مجتمعاتنا زراعية، تسودها القرية، ومدنها غائبة عن الوعي، ما عدا العواصم. خذ الإذاعة والقصر الملكي أو الجمهوري، تأخذ العاصمة. وخذ العاصمة تأخذ البلد. ولعل سورية أكثر بلد تقلب من انقلاب الى آخر، بأديولوجيا أو من دونها، بحزب «قائد» أو من دونه. واكتشف الأيديولوجيون أن أفكارهم ليست أداة للسلطة، فهذه تقوم على القوة القاهرة لا على الكلام المعسول، وأن الأفكار لا قيمة لها إن لم تكن مسندة بمؤسسات حامية. سقط الكل إلى مرتبة خادم لص تحت أقدام العسكر. اليوم مجتمعاتنا حضرية، ضخمة، مدنها فاعلة، وقراها خاملة، وإن تحركت هذه الأخيرة ففي الانتخابات دعماً لكل ما هو محافظ ومتخلف. الجيوش، في معظم بلدان المنطقة (أبرزها سورية ومصر وتركيا) هي، زعماً، بانية الأمّة. أتاتورك حرر تركيا وأنشأ جمهوريتها، وعبدالناصر أجلى البريطانيين وأسس الجمهورية. أما في سورية فكل كفاءة الجيش الانتصار على سياسيين بلا سلاح. لكن الجيش الباني، صار الجيش المالك، الوصي على الأمة، النازلة إلى مرتبة القطيع. أذكر في منتصف الثمانينات جلسة عقدها مثقفون سوريون لمناقشة الموازنة السورية. كنت أستمع مذهولاً إلى أرقام تفيد بأن موازنة الجيش تؤلف 40 في المئة من الموازنة العامة. كل الأمّة بستين في المئة والجيش وحده بأربعين. الأغرب من ذلك أن عجز الموازنة كان (احرزوا): 40 في المئة! السرقة فادحة. الأمم التي بنت استقلالها بحركات قاعدية، مدنية، قليلة، لكنها الأوفر حظاً في الانتقال السلمي إلى الديموقراطية (تونس خير مثال). الأمم الأخرى، الجيوش فيها أصناف: إما عقائدية (نظام الحزب الواحد)، أو قبلية (تغلغل نظام القرابة في قياداتها)، أو صنف آخر هو تحول المؤسسة إلى «طبقة مغلقة» (caste)، كما هي الحال في سورية ومصر وتركيا، على سبيل المثال. ولهذه الجيوش منابع «شرعية» تحرص عليها: تأسيس الجمهورية في تركيا، أو ثورة يوليو (مصر)، أو الممانعة والتحرير في سورية الصمود الزائف. من هنا، حرص قادة المؤسسة السياسية والعسكرية على الاحتفال بثورة أو الادعاء بتحرير مقبل لم يبقَ منهما، حقاً، سوى هيمنة الحاكم والخوذة، مثل بقايا أسنان عجوز أثرم. خلال التحول من الاقتصاد الممركز إلى «الانفتاح» أو اقتصاد السوق (في السبعينات والثمانينات)، طالب العسكر بحصة من الغنيمة الموزعة على رجال الأعمال (بيع الأصول الاقتصادية الحكومية إلى القطاع الخاص) أو اغتنام ضوابط ومنافذ الاقتصاد المركزي لاحتكار نشاطات اقتصادية من استيراد سيارات الأجرة إلى دفن النفايات النووية وما بينهما. المليونيريون الجدد هم أقرباء الرئيس وأصهاره والدائرة الضيقة من رجال الأعمال الخدم بحرفية التعبير لا مجازه. في أوروبا الغابرة رجال الأعمال ومثقفو الطبقات الوسطى كانوا رأس الرمح في الحراك الديموقراطي. في سورية وغيرها كانوا ولا يزال جلهم بياع الخنوع الخالص. خلال ذلك ظهرت على الفور أسماء كبار القادة والسياسيين على قوائم مجالس إدارات الشركات الأهلية أو في البزنس المعلن والخفي. تحالف العسكر مع طبقة البزنس حوّل الدولة إلى الدجاجة التي تبيض ذهباً، وإلى طبقة تافهة من مصاصي ثروات الأمّة. وتحولت المؤسسة العسكرية، الفاشلة في حرب 1967 (على رغم أنها رمت الفشل على السياسيين وحدهم!) والفاشلة في حرب تشرين 1973، إلى مدعي بطولات خارقة يطالب بأكبر نصيب من ثروة الأمّة، وأكبر حصة من مواقع الإدارة. ما من جنرال أو سياسي يتقاعد إلا ويجد طريقه إلى منصب أو استثمار في بلاد الغرب. وما من رئيس يترشح، إلا ويكون حامل نياشين، ابن المؤسسة، وراعيها بالانتماء أو التوريث. فضلاً عن ذلك، أخذت المؤسسات العسكرية تبني ما اصطلح عليه تعبير المجمّع العسكري - الصناعي (وزارة التصنيع العسكري في العراق، مؤسسة التصنيع العسكري في سورية، كما في تركيا ومصر). وهو تقليد ومحاكاة للمجمع العسكري - الصناعي في أميركا. لا بأس بمحاكاة العدو الإمبريالي في الأيديولوجيا الرسمية. ولكن، على حين أن هذا الأخير لم يكن يتضمن «ملكية» العسكر للأصول الاقتصادية، واقتصر على توظيف جنرالات متقاعدين في مجلس إدارات الصناعات العسكرية (المملوكة ملكاً خاصاً) لتسهيل البزنس بين الدولة - الدفاع والشركات، فإن النموذج المصري - السوري - العراقي، شاد إمبراطوريات اقتصادية يديرها العسكر بلا رقيب، وتقوم بأنشطة اقتصادية عسكرية ومدنية ربحية. لكن بنية المؤسسة كانت نسخة عن صورة النخبة: مزرعة قرابية - جهوية تحتكر لنفسها النصيب الأكبر وتترك الفتات للآخرين. هل نستغرب، بعد هذا، سلوك المؤسسة العسكرية في عملية الانتقال الجارية أو نستغرب انقسامها؟ إنه انقسام الأمّة وانفصالها عن الدولة منقولاً إلى المؤسسة العسكرية. وهي قوية، بل جبارة، بفضل تماسكها العام، وتحالفها مع البزنس، وامتلاكها شبكات واسعة من التنظيم الاجتماعي غير المرئي، ولكنها ليست قوية وجبارة بما فيه الكفاية للقضاء على حركات الاحتجاج. لعل انقسامها سيعطي العسكر فرصة التكفير عن خطايا الجزء الرسمي القمعي ويتيح في الظرف الراهن موازنة ثقل الأصوليين الذين بدأوا الذبح من الآن، فهم من طينة عدوهم الدموية. بخلاف ذلك لا بد للعسكر من مؤسسة متوازنة والعودة إلى الثكنات. لقد حققت تركيا ذلك مثلما بدأت مصر بالتدريج هذا المسار الذي لا بد أن ينتهي بعودة إلى الحياة المدنية. * كاتب عراقي