ما أحاول تناوله في هذه المقالة ليس من أجل إعادة إنتاج المقولة الشهيرة لديكارت «أنا أفكر إذن أنا موجود»، عندما قالها حين شكّ في الأشياء من حوله، ولم يجد سوى عقله وفكره، ليثبت فيه وجوده وموقفه، وعندما توصل إلى قناعة أن الفكرة الفاسدة تفسد الأفكار النبيلة، وأن عليه أن يتخلص منها بإعلان موقف فكري واضح منها، ولكنها تعود كلما بحثت في أوراقي القديمة عن العقل العربي المستقل في عصر تداخلت فيه الأفكار بشكل غير مسبوق، وفسدت فيه العقول بسبب ذلك التماهي بين الأفكار الفاسدة والنبيلة. * يقف الإنسان العربي في حيرة من أمره أكثر من أي زمن مضى أمام الانهيارات الفكرية المنتظرة، ولا بديل أن يتعلم هذا العقل كيف يتبنى المواقف من الأحداث من حوله، وأن يكون في قدرته أن يعلن وجوده، ويتخذ مواقف فكرية واضحة من كثير من الظواهر التي عانت منها الشعوب العربية في العقود الأخيرة، ولن يحدث ذلك ما لم يدرك المرء أنه قادر على التفكير الذي يعلن به وجوده وكيانه بعد قرون من الإقصاء من النخبة. * أصبح تداخل الأفكار الفاسدة مع الأفكار النبيلة أحد أهم أزمات العقل المسلم المعاصر، فقد تبيّن خلال العقدين الماضين مدى تمازج بعض الأفكار الفاسدة وتواريها خلف كثير من الأفكار النبيلة والمعلنة، ومنها أن تدعو جماعة إلى القتل والعنف من أجل إعلاء كلمة الله، أو تعلن التعبئة بالتحريض العدائي ضد طائفة أخرى بسبب تطرف أحدهم، أو أن يمارس أحدهم الاستبداد في صور دموية مروعة من أجل الحفاظ على أمن الوطن، أو أن نسمح للفساد أن يهلك مصالح الناس من أجل أن لا نشوّه سمعتنا في الخارج. * نحتاج إلى إعلان الخلاص الفكري من التطرف والعنف وقتل الأبرياء، وأن الإنسان قادر أن يعلن اختلافه مع المتطرف في رؤيته وحكمه على الأشياء من حوله، وأن يفصل المرء في وضوح تام تلك التوأمة غير الصحيحة في عقله بين الدين والتطرف، لأن التطرف والعنف ودعوات إراقة الدماء تعد جرائم في حق الإنسانية مهما كان دافع المحرّض عليها، وإن كان يرفع شعار الدين في وجه المجتمع، لأن ذلك ببساطه يخالف مقاصد الدين الحنيف، وينافي الأخلاق والمبادئ الإنسانية. * أن يكون في مقدور الإنسان أن يتبنى موقفاً واضحاً من أولئك الذين يريدون فرض آرائهم على المجتمع رغماً عنه، ومن الذين يريدون أن يجبروه على اعتناق اجتهاداتهم في كثير من الأشياء التي تحتمل الرأي والرأي الآخر، وأن نكون واضحين أن لغة الفرض القسري والإجبار لم تعد تواكب مخرجات التعليم الحديثة، وأن الإنسان الواعي يستطيع أن يصل إلى قناعة واضحة بدون وصاية مرشد يملي عليه مواقفه بغض النظر عن عقله وقناعاته، وأن هذا التحكم المباشر هو مصدر لا ينضب للأفكار الفاسدة في كثير من المجتمعات، وطريق لمرحلة الفوضى الذي قد تصل بالناس إلى الفتنة الكبرى. * أن يطلق الإنسان العنان لعقله في أن يرفض الاستبداد جملة وتفصيلاً، وأن يكون متسامحاً ومتقبلاً للآخر في محيطه الصغير، وذلك من أجل تفكيك بنية الاستبداد في كل اتجاهاته، وبالتالي انهيار جذوره في المجتمع، وقد كان من أهم أركانه التساهل الفكري مع لغة الاستبداد في المجتمعات الشرقية، وتقديم التبريرات العقلية لاستمراره واستغلاله في إحكام سيطرته على العقول المستكينة، لكن الواقع علمنا أن الاستبداد عدو الأمن والسلام والطمأنينة في المجتمعات، وأنه بمثابة القنبلة الموقوتة التي قد تنفجر في وجوه الجميع بسبب الصمت عن تجاوزاتها. * أن يدرك الإنسان بفكره أهمية الإيمان بحقوق الناس في استيفاء حقوقهم مهما كان الاختلاف معهم، وأن يصل بفكره إلى أن الحضارات الإنسانية المتقدمة لم تتقدم إلا باحترام حقوق الإنسان، وأنها ثقافة لا تتعارض مع الدين، بل يُِثاب الذين يؤمنون بها، وأن الإسلام في قرنه الأول بشر بحرية الإنسان وجعل العدل ميزاناً للحكم في المجتمعات. قلا عنن الجزيرة