السياسة علم وفن، وهي علم حكم الدولة أو صنع الدولة، أو إدارة شؤون الدولة والمجتمع، وهي أيضاً فن الإدارة والقيادة واتخاذ القرار في الظرف المناسب. بتعبير آخر، السياسة هي لخدمة المصلحة العامة، أو لتحقيق الخير العام، أو لبلوغ النفع العام، بعيداً من الفساد والإفساد. لذلك، قيل إن علم السياسة هو من أنبل العلوم وأهمها، نظراً إلى ما يختزن من قواعد وأفكار ونظريات وُجدت لخدمة الإنسان والمجتمع، بل لخدمة الأمم والشعوب والأسرة الدولية أو الجماعة الدولية. على ذلك، نؤمن بارتباط السياسة بالأخلاق. ونعتقد أن ابتعاد السياسة عن الأخلاق، يعني تحويلها الى ممارسات قهرية وعنيفة، أو الى منفعة على حساب مصالح الناس، أو استئثارٍ بموارد الشعب وثرواته. التحلّل من الأخلاق يقود الى غلبة القوة على الحق، والى طغيان المادية على الإنسانية. إنه نوع من السباق نحو الظلم والاستبداد والغلبة، كسباق التسلّح على سبيل المثال لا الحصر بعيداً من معالجة الفقر والمرض والجهل ومظاهر التخلف كافة. لذلك، لا خشية أمام الساسة الإصلاحيين من اتهامهم بالمثالية إذا ما التمسوا الأخلاق فكراً وممارسة، في الحكم والإدارة. فالالتزام بجوهر الشريعة من حيث هي تحقيق المصلحة العامة، وخدمة الإنسان المستخلف في الأرض والتمسك بالقيم والأخلاق في العمل السياسي، ليس مدعاة للخوف أو الحذر من طغيان الفلسفة المادية التي زحفت تحت عناوين الثورات الصناعية والإلكترونية لتسليع الإنسان والمجتمع والدولة. التمسك بالقيم والأخلاق تأكيد لإنسانية الإنسان، التي أرادها الدين، أو سعى إليها القانون، طبيعياً كان أم وضعياً. من هنا أزمة الماديين، حتى لو ادعوا الواقعية في الممارسة السياسية، لأنهم اصطدموا ويصطدمون اليوم بمعضلات الفقر وتدمير البيئة الطبيعية والأزمات المالية والاقتصادية العالمية، وقبل ذلك وبعده: تهديد السلم والأمن الدوليين. ونقول، إن الأخلاق عامل مساعد على تبديد القلق. قلق الفرد والجماعة، قلق الدولة والنظام الدولي. وما زال هذا القلق مرافقاً للبشرية منذ أن دعا أفلاطون الى الدولة المثلى، دولة العدالة. ومنذ أن اعتبر أرسطو الدولة وسيلة لنشر الفضيلة وتحقيق الخير العام. واتصالاً مع الفكر المسيحي والحضارة المسيحية، دعا القديس توما الإكويني الى الانصياع للقانون الإلهي في معرض البحث عن سعادة الإنسان. ولم يتجرأ الماديون، كما المثاليون، في الغرب على التهرّب من موجبات الأخلاق على رغم طغيان المادة، حتى ان عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر دعا في مطلع القرن العشرين إلى التمسك بالتقاليد والأعراف الاجتماعية السائدة، واعتبرها مصدراً مهماً من مصادر شرعية السلطة السياسية. كيف تترسخ التقاليد، إذا لم تنبثق من حقائق المجتمع الدينية والثقافية المتوارثة؟ عند الغوص في الحضارة الإسلامية نجد أساساً راسخاً للأخلاق ديناً وفلسفة وثقافة واجتماعاً. فالحديث الشريف الصحيح (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) قاعدة موجهة للإنسان والمجتمع، وتالياً للسياسة والسياسيين. وإنه لأمر عظيم أن ترتبط البعثة النبوية بالأخلاق، وأن يجتهد الفقهاء والفلاسفة لاحقاً في وضع الأخلاق مرتبة عليا لإدارة شؤون الحياة الدنيا. إن الدعوات الأخلاقية لابن رشد، وابن خلدون، مستمرة في مداها الإيجابي. في اختصار إنها دعوة احترام إنسانية الإنسان، ولا يتحقق ذلك بمجافاة الأخلاق والقيم، بل بالتمسك بهما. وما تيار الجامعة الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلّا صدى لهذه الدعوة تحت عنوان التجديد الحضاري، والتجديد الفكري، والتجديد الفقهي. إنه تيار أخلاقي بامتياز يصبّ في بحر الحضارة الإنسانية. ولا نغالي إذا قلنا إن الأخلاق ركن ركين في المعتقد الإسلامي، وفي الفكر الإسلامي. ونستدرك لنقول إن التركيز على الأخلاق لا يعني التنكر للحقائق المادية في الكون، ولحقيقة ان الدولة كيان مادي الى جانب كونها كياناً معنوياً. علينا التعامل مع الاقتصاد والاجتماع والتقنية. مع الحضارة والحداثة. مع العلوم المادية كما العلوم الإنسانية. بيد أن الاعتراف بالواقعية لا يعني أننا نقرّ بماديتها المطلقة، ولا نأخذ بفلسفة القوة التي تتبنّى. إننا مع الواقعية الإنسانية، التي تلتقي مع المثالية في إنسانية الإنسان، في الخير العام، في التقدم ومواجهة التخلف. ولسنا مع الواقعية المادية التي تطلق العنان لهيمنة القوة على مقدرات الشعوب ومصالحها المشروعة. فالقوة ليست هدفاً لذاتها، إنها لهدف إنساني أو هكذا يجب ان تكون في عالمنا الذي يضج بالأزمات والنزاعات. على هذه القاعدة الدينية والفكرية، ترفض معايير الأخلاق الازدواجية بين القول والعمل، بين التصريح والممارسة، بين الشعار والتطبيق. يجب أن يقترن القول بالعمل، وأن تكون وسائل العمل أخلاقية ذات مضمون إنساني عميق. جاء في كتاب الله: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون). إنها آية واضحة في معناها ومبتغاها، تنبّه الإنسان الى الابتعاد عن النفاق والكذب، وكيف إذا كان النفاق سياسياً يطاول حياة المجتمع والأمة؟ النفاق السياسي مأساة من مآسي العصر الذي نعيش. كم من الوعود باسم الديموقراطية والتنمية والعدالة وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية في مقابل التخلي عن هذه الشعارات البراقة؟ نجد في الممارسة تسلطاً وقهراً وفساداً في غير مجال، ما يناقض أخلاقية الإنسان أياً يكن موقعه في الدولة والمجتمع. إن وسائل العمل السياسي يجب أن تكون شريفة، نظيفة، منزهة عن الفساد والظلم. ومن يتبنَّ شعار (الغاية تبرر الوسيلة) يخالف شرع الله، كما يخالف حتى جوهر القانون الوضعي المتجسّد في العدل والانصاف. إن الوسيلة الوضيعة تأخذ من أهمية الهدف مهما كان سامياً. والانحدار القيمي والأخلاقي لا يحقق هدفاً عظيماً للشعوب. وسرقة الثورة بواسطة الانتهازيين والفاسدين والمنافقين لا تستوي مع أخلاقية الثورة والثوار. الثورة الحقّة هي ثورة التغيير الإيجابي لمصلحة الشعب، وبقدر ما تعتمد وسائل أخلاقية مشروعة بقدر ما تجنّد الجمهور، وتحشد قواه المادية والمعنوية من أجل تحقيق أهدافه النبيلة. ومن مدركات الوسائل الأخلاقية، أو الوسائل النبيلة، تبرز الكلمة الطيّبة، التي تعني في ما تعني اعتماد الخطاب السياسي الرصين، خطاب وطني غير فئوي، خطاب جامع لا يأخذ بالفتنة وسيلة أو غاية، خطاب إنساني يراعي الكرامة الإنسانية. خطاب ثقافي له بعد حضاري وليس خطاباً منحطاً لا طائل منه. الكلمة الطيّبة، تلتقي مع الموعظة الحسنة من حيث آثارها الإيجابية في العامة من الناس. الكلمة الطيّبة هي بنت الحكمة بعيداً من المراهقة السياسية، أو التطرف السياسي. الكلمة الطيبة لا تأتلف مع التطرف، ولا تحمل في طياتها معالم العنف أو الإرهاب أو التخوين أو التكفير. الكلمة الطيّبة مادة الوسطية الفكرية في العلاقات بين الدول والجماعات. وكم من القادة الذين دخلوا عقول وقلوب الشعوب بواسطة الكلمة الطيّبة؟ في المقابل، كم من القادة الذين أدانتهم شعوبهم وشعوب العالم نتيجة الانحدار الأخلاقي في خطابهم السياسي؟ الكلمة الطيّبة، أو الموعظة الحسنة، تقود الى الابتعاد عن التحقير والشتائم في السياسة. إنها أساس صلب لاحترام الرموز الدينية والوطنية والعالمية بعيداً من السفاهة والتفاهة. يمكن أن ننتقد أي موقف سياسي من دون اعتماد ألفاظ نابية، أو عبارات منافية لأخلاقنا الوطنية والإنسانية. وعليه، نجد ضرورة ترشيد الخطاب السياسي بعيداً من اللعن والشتائم. والمعني بهذا الخطاب الحزب السياسي والقائد السياسي والمسؤول السياسي... فالمسؤولية رعاية وعناية، واستعداد لمكاشفة الشعب بالحقائق. ثمة مجال أخلاقي آخر لا بد من خوضه ونحن نقارب المسؤولية السياسية، إنه الصدق والنيّة الحسنة. ولطالما أشار الفكر الإسلامي الى النيّة الحسنة في العبادات والمعاملات، كما ان الفكر الغربي في بعض مدركاته توقف عند النيّة الحسنة كما فعل أحد مؤسسي القانون الدولي المعاصر الفقيه الهولندي غروسيوس وهو يدعو الى اعتماد النيّة الحسنة معياراً للعلاقات بين الدول والجماعات. والنيّة الحسنة لا تعني البساطة، أو السذاجة، بقدر ما تعني الإيمان بالكرامة الإنسانية من منطلق أخلاقي قيمي. إنها – أي النيّة الحسنة – تقود الى رفض اغتياب الآخر، فالغيبة مرذولة ديناً وأخلاقاً. صار التمسك بالقيم والأخلاق حقاً من حقوق الإنسان، مكرساً في القواعد الدولية الناظمة للعلاقات بين الدول والشعوب. وثمة احترام للخصوصية الثقافية، والحضارية، لجميع الشعوب، على الأقل في الإطار النظري. قد يُقال وماذا عن انتهاكات حقوق الإنسان دونما رادع من أخلاق في غير مكانٍ من العالم؟ أشارت مبادئ منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (أونيسكو) الى ان (لكل ثقافة من الكرامة والقيمة ما يستوجب احترامها وصونها). وأكدت المادة 18 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية حقَّ كل إنسان في حرية الفكر والوجدان والدين. وجاء في مطبوعة الأممالمتحدة (حقوق الإنسان: أسئلة وإجابات، نيويورك، 1987) ان حقوق الإنسان تستند الى مطلب البشرية المضطرد في حياة تحظى فيها الكرامة والقيمة المتأصلتين في كل إنسان بالاحترام والحماية. وعليه، عندما نتحدث عن الأخلاق في السياسة كونها جزءاً من الثقافة العربية والإسلامية، فإننا نستند الى التراث وفي الوقت عينه الى القواعد الدولية والمواثيق الدولية. والخطأ عندنا إذا لم نلتزم هذه القواعد، ولم نساهم في إغنائها حضارياً وإنسانياً. ثمة أمراض خبيثة تفتك بمجتمعاتنا، منافية للقيم والأخلاق. أمراض تطغى على الحياة السياسية، ونعتقد بضرورة معالجتها دفاعاً عن أنفسنا وعن الأسرة الدولية: 1- الفساد الأخلاقي في الممارسة السياسية، وفي الإدارة العامة، وفي إدارة الأعمال ذات الطابع الخاص. لا بد من إعادة الاعتبار الى حماية المال العام من عبث الفاسدين والمفسدين، فالسرقة حرام، وهي جريمة يعاقب عليها القانون. 2- شهادة الباطل أمام القضاء. إنها من أخطر الأمراض المنافية للشرع والوضع. وهي تعطيل لحكم القانون في إطار العدالة. 3- التهرّب من دفع الضرائب، من طريق الوساطة والمحسوبية والزبائنية، أو من خلال التزوير والتدليس وسوء استغلال السلطة. لا بد من تعزيز أجهزة الرقابة المالية والإدارية بعيداً من نفوذ الحكام والسياسيين الممارسين. 4- العبث بالانتظام العام بإثارة الغرائز الطائفية والمذهبية والعرقية والأقلوية بعيداً من مفاهيم الخير العام والمواطنة. إنه تهديد مباشر للدولة كمؤسسة عامة عليا، وتهديد للمؤسسات الفرعية المنبثقة منها، وتهديد لوحدة المجتمع. بتعبير آخر، هناك من لا يتورع عن إثارة النزاعات والحروب الأهلية توخياً لبقاء سلطته أو للحفاظ على ماله المسروق من جهد الناس البسطاء. 5- اعتبار الألفاظ النابية في الخطاب السياسي، وعبر وسائل الإعلام، منافية للآداب العامة، ويستحق مطلقوها الجزاء أمام القانون. 6- من القضايا المعيبة أن نتجاهل آلام الشعوب أيام الكوارث الطبيعية والنزاعات الداخلية والحروب. هناك بون شاسع في عالم اليوم بين قلة تستأثر بالمال والثروات في مقابل كثرة ساحقة من البؤساء والفقراء والمهمشين اجتماعياً. * وزير دولة في الحكومة اللبنانية، والنص مقطع من محاضرة ألقاها أخيراً في «الرابطة المحمدية للعلماء» – الدار البيضاء