الحديث عن الإصلاح مشوب بالكثير من مشاعر الأسى والألم، فهو حديث عن دموع المظلومين المتناثرة في ردهات الفاسدين والمستكبرين، وعن الأطفال الجائعين، تنتزع اللقمة من أفواههم، لترمى في نفايات الأغنياء والمترفين وعن طفلة لم تتجاوز العاشرة من العمر، يبيعها والدها لمن يكبرها بستين عاماً، فيغتال براءتها مقابل عرض من الدنيا قليل أو عن رجل حر نبيل، تفوه بكلمة، فغيبته عن أهله بضع سنين! ليس على وجه هذه البسيطة فعل أنبل من الإصلاح، فهو مهمة الأنبياء والمرسلين، كما أعلنها شعيب وبكل وضوح (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)، بل هو جزء من مهمة الاستخلاف الموكلة إلى الإنسان، وهذا ما يتضح حينما نتأمل في سبب تعجب الملائكة حينما أخبرهم الرب الحكيم جل جلاله باستخلاف آدم وذريته على هذه الأرض، فقالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)، ومفهوم المخالفة يقتضي أن الإصلاح في الأرض وحفظ كرامة الإنسان هو ما يحقق معنى الاستخلاف. إن جميع الأنبياء بعثوا من أجل إصلاح الدين وهداية البشرية، إلا أن الله تعالى بعث -إلى جانب ذلك- نبيه موسى من أجل الإصلاح السياسي، وشعيباً لأجل الإصلاح الاقتصادي، ولوطاً لأجل الإصلاح الاجتماعي، وقد تكررت قصصهم -عليهم السلام- كثيراً في كتاب الله تعالى، لذا يجب أن نستلهم هذه النماذج كي تكون مرشداً لنا للقيام بمهمة الاستخلاف على هذه الأرض، ولتحقيق منجز حضاري يكون شاهداً على عظمة هذا الدين. ولهذا يمكننا أن نقول -بعيداً عن الجدل والغموض الذي يحيط بمفهوم الإصلاح- أن الإصلاح مفهوم شامل لكل ما هو ضد الإفساد، يشمل الجوانب السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية، ويدخل في ضمنه كل الأفعال الصالحة والنبيلة التي تسعى لتحقيق كرامة الإنسان، فهو يشمل محاربة الفساد والوقوف في وجه الظالمين، كما يشمل أيضاً مسح دمعة اليتيم، وإطعام الفقير والمسكين، والإصلاح بين الأزواج والمتخاصمين. ومسؤولية الإصلاح لا تقتصر على نخب سياسية أو دينية أو ثقافية، بل تشمل الجميع، ففي قوله تعالى: (وأهلها مصلحون)، دلالة على أن الإصلاح ليس عملاً فردياً يفرض ويطبق، بل هو مهمة ينخرط فيها الجميع من أجل تحقيق الكرامة الإنسانية وللحفاظ على مستقبل الأجيال، كما أنه ليس مهمة وقتية، بل هو عملية مستمرة ودائمة ومتجددة. الإصلاح هو بوابة العبور إلى النهضة، ورغم أنه يستند إلى الإرادة السياسية بالدرجة الأولى، إلا أنه لا يقتصر على العمل السياسي فحسب، بل يشمل كل جوانب القصور التي لا يخلو منها أي مجتمع، فالنهضة لا يمكن أن تتحقق عندما تقتصر على الإصلاح السياسي بمعزل عن الإصلاحات الأخرى، خصوصاً تلك المتعلقة بالإصلاح الديني، هذا بالإضافة إلى أن هناك نوعا من التداخل والتكامل بين الإصلاح الديني والسياسي، واللذين يمثلان أساس المشروع الإصلاحي والنهضوي. الإصلاح السياسي يعد مطلباً ملحاً في عالمنا العربي والإسلامي، وهو يتضمن العديد من الجوانب، من أهمها: الفصل بين السلطات، وتفعيل الرقابة والمحاسبة، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، ورفع سقف الحريات، وتعزيز حقوق الإنسان. أما الإصلاح الديني فهو من الجوانب ذات الأهمية الكبيرة في مجتمعاتنا المسلمة، حيث يعد الدين مكوناً أساسياً من مكوناتها الثقافية، وهذا الإصلاح يتطلب أن يمارس الخطاب الديني دوره المنشود في تصحيح وغرس العديد من المفاهيم والأفكار، وأن يسهم في دفع عجلة التنمية والنهضة. هذا الخطاب الديني -الذي نعوّل عليه في الإصلاح- يتميز بكونه أكثر التصاقاً بالواقع ومراعاةً لأولوياته، حتى يكون الدين -بحق- صالحاً لكل زمان ومكان، ويتميز أيضاً باهتمامه الشديد بمقاصد الشريعة ومصالح الخلق، وبتفعيله لدور العقل الذي حث القرآن كثيراً على إعماله، ونبذه للجمود والتقليد وتغييب العقل الذي ذمه القرآن بشدة، كما يهتم بترسيخ القيم الحضارية والإنسانية، ونشر قيم التسامح والاعتدال واحترام الآخر، ونبذ ثقافة العنف والعنصرية والكراهية. ويجب أن يتولى هذا الخطاب مسؤولية تصحيح عدد من المفاهيم الخاطئة المترسخة في العقل الجمعي، ف «العبادة» لا تقتصر على بعض الشعائر النسكية، بل تشمل كل عمل نافع وصالح (وعملوا الصالحات)، والعلوم النافعة -بشتى مجالاتها الشرعية والطبيعية والمدنية والإنسانية- هي كلها مما يحث الشارع على تحصيله ويرتب عليه الأجر والثواب، و «القضاء والقدر» لا يجوز أن يتخذ مبررًا لإخفاقاتنا ومصائبنا وأخطائنا -المتعلقة بالمستوى الجماعي تحديداً- ما لم نستفرغ الوسع والجهد في تحصيل الوسائل وبذل الأسباب، بالإضافة إلى عدد من المفاهيم التي تحتاج إلى تصحيح كالخلط بين عالمي الغيب والشهادة، والتهوين من شأن الذنوب الجماعية، وغيرها. ومن المهم قبل هذا كله أن يكون من يتولى عملية الإصلاح الديني مستقلاً عن السلطة، حتى لا يستخدم الدين كأداة لقمع الحريات، وشرعنة الاستبداد، وتخدير الشعوب. هذه مجرد أحاديث عابرة حول الإصلاح، وأفعالنا وحدها هي القادرة على ترجمة الأفكار وتجسيدها على أرض الواقع، فلنعمل إذاً من أجل الإصلاح، ومن أجل مستقبل يملؤه الإشراق والتفاؤل والأمل.