العبارة في العنوان هي تحوير لشعار حزب البعث الأشهر «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» والتحوير ليس مني، ولكنه من الضابط الدرزي سليم حاطوم الذي كان حليفا لحافظ الأسد ثم انقلب عليه فأعدمه الأسد. إن الطائفية المقيتة تبدو من أفضل أسلحة إيران السياسية داخليا وإقليميا؛ داخليا الأمر ظاهر ولا يحتاج إلى دليل من نص الدستور إلى فعل السلطة اليومي، وإقليميا فهي تمارس هذه اللعبة الخطرة في سوريا واليمن والبحرين، كما لعبتها سابقا في لبنان والعراق، وكما تهدد بها على الدوام، ولكن ممارسة الطائفية على المستوى الداخلي، أي داخل الدولة، قد سبقها بها حافظ الأسد في سوريا وسلمها من بعده لابنه بشار الذي صار رئيسا بديلا لباسل. إن سوريا وإيران مستمرتان في تلك السياسة، وهما وأتباعهما في المنطقة يحاولون وصم كل من يتطرق للموضوع الطائفي وعلاقته بالصراع في سوريا بأنه مع الطائفية حتى وإن تناول ذلك بحقائق تاريخية وتحليل علمي، وهي لعبة أصبحت مكشوفة، فالموضوع الطائفي في سوريا وإن كان شائكا يجب أن يكون على الطاولة كتاريخ وكواقع، وأن يتم التعامل معه بالحكمة والعقل بعد المعرفة والوعي. في تاريخ سوريا الحديث كان موضوع الطائفية حاضرا بقوة، ففي العهد العثماني كانت معارضة الشعب والمفكرين العرب حينها ترتكز على معارضة العثمانيين باعتبارهم مستبدين ودون أي حضور للبعد الطائفي، غير أن بعض الأقليات كان لديها شعور آخر بأن ذلك كان حكما أجنبيا، وهذا التفريق يوضحه ما تجلى لاحقا في زمن الانتداب الفرنسي لسوريا حين سعى لبناء دويلة للأقليات وعلى رأسها الأقلية العلوية في جبال العلويين، هذه المنطقة التي تم تغيير اسمها لاحقا لتصبح اللاذقية، فقد سعى الانتداب الفرنسي حينها لتجنيد أبناء الأقليات في الجيش عبر «القوات الخاصة للشرق الأدنى» التي أنشأها ورعاها، في زمن كان أهل المدن السنيون يحتقرون العمل في الجيش كمهنة وهو ما أضر بهم لاحقا، وقد أدت تلك القوات «إلى تأسيس تقليد عسكري علوي أصبح مركزيا في صعود الطائفة اللاحق» (باتريك سيل: ص69). بعد الاستقلال السوري، وبعكس أهل المدن السنيين، انخرط كثير من أبناء الأقليات وسكان الريف في حزب البعث وفي الجيش: في حزب البعث الذي يرى مطاع صفدي أنه «في الأصل حركة طائفية» فقد عانى قادته كثيرا في نقله إلى المدن وإلى الأكثرية السنية، أما الجيش فقد انتهكت عقيدته العسكرية باكرا بعد الاستقلال لتصبح ولاءات ضباطه موزعة بين الأحزاب الآيديولوجية والولاءات العشائرية والطائفية. في هذا السياق وعلى هذا النسق أنشأ حافظ الأسد مع أربعة آخرين كلهم من الأقليات، ثلاثة علويين: محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، وإسماعيليان: عبد الكريم الجندي وأحمد المير «اللجنة العسكرية» التي تطورت لاحقا ليحكم حافظ سوريا من خلالها. بعد انقلاب البعث 1963 بدا لصلاح جديد وحافظ الأسد أن الاستقطاب الطائفي للأقليات في الحزب والجيش هو سبيلهما الأمثل لاعتلاء السلطة، وحين انحاز جديد للسيطرة على الحزب اتجه الأسد للسيطرة على المؤسسة العسكرية، وحين نشب الصراع بينهما لاحقا كان الأسد هو الأقوى وصاحب الكلمة الفصل ففرض نفسه بقوة الجيش الذي سيطر عليه عبر ولاءات الأقلية والطائفية التي كونها ووثق بها. لم يكن حافظ الأسد على قدر من الاستعجال ليصرح بما قاله رفيقه السابق محمد عمران بأن «الفاطمية يجب أن تأخذ دورها» ولكنه فعل على الأرض ما يزيد على ذلك، ثم لم يزل وعي الأسد يتجه باتجاهات أكثر ضيقا؛ فمن الاعتماد على الأقليات عموما إلى الاعتماد على الفاطمية إلى تخصيص العلوية وصولا إلى العشائرية ثم العائلية لإدارة الجيش والبلاد. لقد قام حافظ الأسد بعد انقلاب البعث 1963 بتصفيات متتالية لضباط الجيش كالتالي: «تصفية أبرز الضباط السنيين 1966 والدروز 1966 والحورانيين 1966 - 1968 والإسماعيليين 1968 - 1969»، ثم «اعتمد الأسد إلى حد كبير بعد 1971 على ضباط من عائلته الشخصية أو عشيرته أو أبناء المناطق المجاورة لقريته» (نيقولاس فان دام: الصراع على السلطة في سوريا: ص131) حيث ذكر بتفاصيل موثقة قصة هذا الانتقال والتصفيات مع أرقام إحصائية جديرة بالقراءة والتحليل. استمر هذا الوعي الطائفي لدى حافظ الأسد حتى بعد استحواذه الكامل على السلطة، وكما كان هذا واضحا في قناعاته فقد كان واضحا لدى بعض القادة العرب الذين تعاملوا معه، ففي قناعاته يذكر عبد الحليم خدام أنه في الشأن اللبناني «كان يعتبر الطائفة الشيعية هي الأكثر قربا من النظام» وأن «القيادات السياسية للمسلمين السنة في لبنان لا يؤتمن لها»، وفي مواقف القادة العرب كان السادات يسمي نظام الأسد ب«البعث العلوي» ونقل عن «فيصل» أن الأسد «بعثي علوي، وأحدهما ألعن من الآخر». هذه مجرد إشارات سريعة لتاريخ سوريا الحديث، وكيف استخدم النظام الطائفية على نحو شرس في الحزب والجيش وصولا للحكومة والدولة. في هذا السياق يمكن قراءة الموقف الروسي الذي يذكرنا بالطائفية في الشأن السوري بشكل معكوس، لا لشيء إلا ليواصل جهده ليرد «جميل أفغانستان» لأميركا، اقتداء برؤية بريجنسكي الذي كان يرى في أفغانستان ردا على «جميل فيتنام» الروسي، ولا شك أن الموقف من ليبيا القذافي يشكل مرارة حاضرة له، ومن هنا سيكون على إدارة أوباما أن تدفع ثمنا تاريخيا جراء موافقتها على تشكل قوة عظمى جديدة معادية لها على المستوى الدولي تكون سوريا نواتها. إن نار الطائفية حين تشتعل لا تعرف حدودا من عقل أو سياسة، بل إنها تأكل الأخضر واليابس، وتجر الجميع لدوامتها، ولن تقف عند حدود سوريا، ولكنها ستصل لحدود روسيا، وسترمي بشررها على الغرب كله، فهي حين تتحول لقوة سياسية فلا يمكن التنبؤ بآثارها. إن الطائفية شر مستطير، وفتنة محتمة، وهي إحدى أمارات التخلف الحضاري، ومع الرفض الكامل لها كمنطق سياسي، غير أن ممارستها بكل هذه البشاعة في سوريا لا بد أن تدفع باتجاه شعور الأكثرية بها ما يعني انتشاءها بدلا من تخفيفها، وحينذاك سيكون الثمن غاليا على الجميع. نقلا عن الشرق الاوسط