بعكس حالات الربيع العربي الأخرى في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، فإن الاحتجاجات الشعبية حين اندلعت في سورية لم تؤد إلى انشقاقات عسكرية وديبلوماسية وسياسية وسريعة (كما في ليبيا واليمن)، أو وقوف الجيش على الحياد بين الرئيس والمحتجين (كما في مصر)، أو تدخل الجيش بطرد الرئيس (كما في تونس). وباستثناء الانشقاقات العسكرية التي تحدث في الميدان، وبإيقاع بطيء حتى الآن، فإن النظام السوري أبدى تماسكاً في مواجهة موجة المطالبة بإسقاط النظام. وفي الجوهر من هذه التماسكات يكمن الجيش الذي يشكل مخزن القوة ومرتكز الأنظمة المستبدة والمؤسسة الأكثر اكتمالاً وجاهزية في دولة العالم الثالث التسلطية. وتشكل هذه المسألة -أي تماسك الجيش خلف النظام في وجه الاحتجاجات الشعبية والضغوط العربية والإقليمية والدولية- جوهرَ هذا المقال.في هذا المقال، أرنو للكشف عن الآليات التي جعلت الجيش السوري طيّعاً في يد القيادة السياسية لسحق الانتفاضة الشعبية بلا رحمة، عوضاً عن الالتزام بالوظيفة التقليدية للجيوش الوطنية، التي هي حماية الوطن وحدوده. السر يكمن -في زعمي- في نجاح النخبة البعثية العسكرية الحاكمة منذ انقلاب 63 في تفصيل المؤسسة العسكرية، لتستجيب لطموحاتها في إدامة السلطة، والسيطرة على الدولة والمجتمع، وذلك عبر تشييد ما يُطلق عليه «الجيش العقائدي» عوضاً عن الجيش الوطني. بداية النظام السياسي القائم في سورية كانت عبر الانقلاب العسكري لثلة من ضباط البعث واستلامهم السلطة سنة 1963، ومازال هذا النظام يمسك بتلابيب السلطة حتى اليوم، رغم التحولات العنيفة داخله في حقبة الستينيات، التي كانت مسرحاً للتنافس بين القائمين بالانقلاب، الذي حُسم باعتلاء حافظ الأسد سدة السلطة سنة 1970. انقلاب 63 خطط له وأداره مجموعة من ضباط الجيش السوري، تجمعوا في تنظيم سري أُسس في القاهرة، زمن الوحدة بين مصر وسورية سنة 1960، على أيدي خمسة ضباط اتصفوا بثلاث صفات رئيسية، كانوا بعثيين، ريفيين، وينتمون لأقليات دينية. ثلاثة منهم علويون (عمران وجديد والأسد) والآخران (المير والجندي) إسماعيليان. كان الضباط الخمسة حانقين. حانقون من الوحدة التي تمت على حساب حزبهم -حزب البعث- كشرط من عبدالناصر لإنجاز الوحدة. وحانقون من قيادة الحزب البرجوازية المدنية المتمثلة في عفلق والبيطار(كلاهما دمشقي، أحدهما مسيحي والآخر مسلم سني)، التي ارتضت حل الحزب، والتي تمثل بشكل ما عائقاً في وجه صعود الريفيين في الحزب والسياسة. وحانقون من تحالف عبدالناصر مع البرجوازية الحضرية السورية في إنجاز الوحدة، على حساب القوى الريفية الناهضة؛ ما يهدد طموحاتهم الشخصية. لقد كانت دوافع أيدويولوجية واجتماعية وشخصية وراء إنشاء التنظيم الجديد. وباسم الحزب والفكرة القومية، وسعت اللجنة من نشاطها وراحت تستقطب الضباط والأعضاء والأعوان، حتى تم لها إنجاز انقلاب 63 في وجه نظام سياسي متهتك ومتهاوٍ. وبرغم أن اللجنة العسكرية هي القوة الجوهرية في الانقلاب، فإن أياً من أفرادها لم يتحول الرجل الأول في الدولة، حتى الحركة التصحيحية التي قادها حافظ الأسد ضد صلاح جديد سنة 1970. السبب الرئيسي في ذلك يعود -غالبا- إلى البعدين الطائفي والمناطقي لأعضاء اللجنة. ببساطة، كانت اللجنة، وبسبب كون أعضائها النافذين من ذوي الأقليات، تدير الأمور من خلف الستار. وربما تلخص حكاية الجنرال الحضري السني، أمين الحافظ، هذه الحكاية.ففي السنوات الأولى لحكم البعث وحتى الانقلاب عليه من قبل اللجنة العسكرية سنة 1966، كان أمين الحافظ يشغل منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الدفاع ووزير الداخلية، لكنه، وكما ينقل باتريك سيل عن حافظ الأسد، لم يكن قادراً حتى على نقل جندي واحد من موقعه من دون موافقة اللجنة العسكرية، برغم كل هذه المناصب. في صبيحة الانقلاب، كان الأعضاء الرئيسيون للجنة العسكرية موظفين مدنيين وضباط سابقين، فنظام الانفصال (1961-1963) كان أعفى كثيراً من الضباط القوميين من الخدمة العسكرية، ونقلهم لوظائف مدنية. لكنهم عادوا للعسكرية صبيحة الانقلاب. صلاح جديد، الرجل القوي داخل اللجنة، والرجل القوي في سورية لاحقاً، واليساري الصارم، دخل دمشق صبيحة الانقلاب على دراجة هوائية، لا ليستلم رئاسة الدولة أو رئاسة الوزراء أو وزارة الدفاع أو حتى رئاسة الأركان، بل فقط ليصبح مديراً في وزارة الدفاع لإدارة تبيّن أنها خطيرة جداً، اسمها «إدارة شؤون الضباط». من موقعه الجديد، ومن سلطته الكبيرة، التي تتجاوز بكثير هذا المنصب، طفق جديد يعيد تركيب الجيش السوري كله. في تلك الإدارة، وفي السنوات الأولى لحكم البعث، طفق جديد، الأيديولوجي ذو الرؤية الإستراتيجية، يطبق فكرته لإنشاء «الجيش العقائدي».فكرة الجيش العقائدي تقوم على تحويل الجيش السوري ليكون موالياً لا للوطن بل لحزب البعث؛ لكي يتمكن الحزب من تنفيذ خططه الأيديولوجية في إقامة الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة! كانت المنهجية قاسية وصارمة في اعتبار عامل الولاء، هو المحدد الرئيسي للرتب والمكانات والمناصب، سواء داخل الجيش أو حتى داخل السلطة المدنية. لذا، كان عبدالناصر يصف منهجية البعثيين الجدد في سورية بقوله «إنهم قسموا المجتمع السوري إلى بعثي وغير بعثي». عبر إدارة شؤون الضباط، قام جديد، المسلح بقوة سياسية رهيبة، يطرد الضباط المحترفين غير الموالين، ويوظف مدرسين وموظفين مدنيين كضباط فقط؛ لأنهم مضموني الولاء للحزب. ولأن اللجنة العسكرية هي التي كانت تمسك بزمام أمور الدولة والحزب، فإن القيادة المدنية للحزب أُبعدت تدريجياً عن مركز النفوذ. وصار العسكر هم المسيطرون على أمور الحزب، لدرجة هرب مؤسسي الحزب عفلق والبيطار من سورية. وبناء على ذلك، يكون الولاء للحزب هو الولاء لعسكرييه الذين كانوا ريفيين ومن الأقليات.