تتنازع الأمم على لقب الفرقة الناجية, فتزعم كل أمة أنها على حق وغيرها على باطل. وتنقسم كل أمة على ذاتها مشكلة مللا متنوعة يظن كل منها أنها هي المقصودة بالفرقة الناجية. وتتفرق الملل إلى مذاهب ومشارب يخطئ بعضها بعضا ويفسق بعضها بعضا. وهم جميعا في ذلك يجردون النية إخلاصا والعمل إتقانا، وشاهده قوله تعالى «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا». والأمم وهي في نزاعها هذا، تجتمع على ما يمكن الاجتماع عليه لتوحد جهودها في مواجهة الأكثر اختلافا معها. فيجتمع أهل الكتاب ضد المشركين من المجوس وعبدة الأصنام والملحدين. ويجتمع اليهود والنصارى في حربهم على المسلمين. ويجتمع أهل السنة على تفسيق وتكفير من خالفهم من أهل البدع والأهواء والفرق الضالة. وتجتمع بعض مذاهب أهل السنة حينا وتفترق حينا لإبعاد المخالف وتقريب الموافق. وأصل هذه النزاعات هو تنازع علماء الأمم والملل على النفوذ، سواء الفكري أو المعنوي أو المادي، ووقود هذه النزاعات هم المقلدون والعامة والبسطاء والجهلة الذين يستجيبون لنزعة الخضوع والاستسلام التي فطر خالق الخلق عليها فيسلمون عقولهم وأنفسهم لأشخاص اعتاد العامة على الاستسلام لهم لظنهم أنهم يعلمون ما لا يمكن علمه وإدراكه أو أنهم يملكون قوى خاصة لا يملكها إلا هم. فمن أجل هؤلاء الأشخاص قُدمت التضحيات فقتلت الأبناء وحرمت الطيبات، «قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين». واستمتع هؤلاء الأشخاص عبر الدهور إلى وقتنا الحاضر باستسلام أتباعهم لهم فاستباحوا أموالهم وافترشوا بناتهم وقتلوا أبناءهم، والأتباع في سكرتهم هذه يعتقدون أنهم يدافعون عن ملتهم التي جسموها وجسدوها في شخص هذا أو ذاك. قتل اليهود زكريا وذبحوا يحيى رضوخا لأحبارهم. وعطلت النصارى عقولها فقتلوا ربهم بعد أن جعلوه واحدا في ثلاثة إذعانا لتراتيل رهبانهم. وأدمى سفهاء ثقيف قدمي رسول الله سيد المرسلين والأولين والآخرين تثبيتا لنفوذ ساداتهم. وأفتى علماء السوء المعتصم بقتل إمام أهل السنة أحمد بن حنبل وتعهدوا بحمل دمه على رقابهم يوم القيامة. وتحت ذريعة مفهوم مصلحة سد الذرائع، رجمت قرى بخاري وسمرقند وطاشكند إمام الحديث، أبا عبد الله البخاري، حتى ثوى طريدا شريدا طاهر الأردان لم تبق بقعة من الأرض غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر. وأما حمير الفروع فهم من قد أفتوا بسجن شيخ الإسلام ابن تيمية بل وقتله لخروجه عن الفتوى في وقوع الطلاق الثلاث حتى مات شهيدا سجينا، وما مات حتى مات سعيدا مُجددا مُخلدا. (حمار الفروع هو طالب علم كان يحفظ كتاب الفروع ولا يفقه منه شيئا فأطلق اللقب على كل مقلد حافظ ينصب نفسه للفتوى)، وما أكثر من حمير الفروع اليوم. ليس الذي يعبد الله على بصيرة كالذي يعبده تقليدا, وفي كل خير وأجرهما على الله. ولكن أنى لمن أراد أن يعبد الله على علم أن يدرك البصيرة، والبصيرة قد يغشاها ما يغشاها من العادات والأهواء والحجة الملعونة «إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون». لذا فلا بد من الأصول والقواعد الثابتة الواضحة للفتوى. اتفق عقلاء الإنسانية على أن ينطلق تحاورهم في أي مسألة يختلفون فيها من نقطة اتفاق تكون منطلقا لحوارهم ومرجعا لهم يهتدون به عند انحرافهم عن محور النقاش ومقصده، وشاهد ذلك قوله تعالى «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله». والمسكوت عنه أن العامة والخاصة على سواء، يقعون فريسة للتلاعب بالعواطف واستخدام الحاجات، فلا يميزون بين فقيه الشهرة وفقيه الملة. ففقيه الملة منضبط مطرد في الفتوى له منهج واضح لا يتناقض، بينما فقيه الشهرة متناقض متمايل مع تمايل الأتباع. قلا عن الجزيرة