لوسألت أو تساءلت: ما هي السمة الأبرز التي تشكل هوية التقليدية على اختلاف أطيافها وتنوع اهتماماتها؛ لكان الجواب الأقرب إلى أذهان جميع العارفين بها، وكل المتماسين معها إيجابا أو سلبا: هي كراهية الآخرين، كل الآخرين، كراهية كل آخر من حيث هو آخر مختلف، بنسبة تطرد مع درجة الاختلاف؛ لتكون الكراهية هنا هي جوهر الرؤية، والغرض المباشر للسلوك؛ لأن الوصول إلى مستوى التمثّل الأكمل للكراهية يعني في تصور التقليدية الوصول إلى كمال الإيمان !. لا توجد ديانة، ولا طائفة، ولا فرقة، ولا مذهب، بل ولا أية إيديولوجيا مدنية، تؤسس لرؤيتها، أو لفلسفتها من منطلق اعتقاد كراهية الآخر، كما تفعل التقليدية الاتباعية التي كانت ولا تزال تشحن أتباعها البؤساء بالكراهية بوصفها ( = الكراهية ) حقيقة الإيمان، وجوهر صفاء التوحيد. قد توجد الكراهية أو العنصرية في ديانة ما، أو في مذهب ما، أو في طائفة ما...إلخ، ولكن سدنتها، أو القائمين على وضع مبادئها، وتفسير أصولها النظرية، قد يُراوغون، وقد يُداهنون خجلا من الاعتراف بذلك، فضلا عن قيامهم بتأويله وتبريره بما يخفف من حدة وقعه على المتلقي. إنهم لا يفكرون ولو للحظة واحدة في وضع الكراهية مبدأ أصيلا من مبادئهم، فضلا عن أن تكون أصلا أصيلا من الأصول الاعتقادية، كم هو حال التقليديين الذين مات الحياء فيهم، كما دفنوا البقية الباقية من الضمير بمثل هذا التنظير الذي يؤسس صراحة لكراهية جميع المخالفين أو المختلفين. التقليدية لا تحتضن الكراهية كرؤية متعالية، أو حتى كسلوك مشروط ومحدود بظروف التكوين أو التكيف فحسب؛ كما هي حال بعض الإيديولوجيات العنصرية، وإنما تزيد على ذلك بأن تجعله مشروعها في الواقع، المشروع الحي / الواقعي / العملي العقائدي؛ لأنها لا ترى الأعمال نتائج مُضمرات عقائدية محكومة بالمنطق السببي المباشر واللامباشر، بل ترى الأعمال بذاتها كما في تصورها الخاص فعل اعتقاد وتصديق. إذن، لا تكتفي التقليدية بأن تطالب أتابعها بالكراهية العامة لكل المختلفين معها على مستوى الاعتقاد المضمر، بل لا بد أن تكون هذه الكراهية ممارسة على مستوى السلوك العيني المباشر؛ بوصفه ممارسة عقائدية تمس أصل الاعتقاد، بحيث لا يجوز فيها الاجتهاد، كما لا يجوز فيها التجوّز، أو التعذر، أو التدرج، أو التخفي، أو التخفف في التطبيق. المنطق الديني لهؤلاء المنتمين للتقليدية يقول صراحة وبوضوح: بقدر ما تضمر من الكراهية، وبقدر ما تعتقدها إيمانا، وبقدر ما تمارسها في الواقع؛ يتحدد مستوى إيمانك، وإخلاصك لدينك، وقربك من الله !. يقولون لك صراحة: كلما كنت أشد كرها للآخرين، وأصدق في تزيل مقتضيات هذا الاعتقاد على الواقع؛ كلما كنت مؤمنا صادق الإيمان. وعلى هذا النحو تتحقق هوية المؤمن؛ في حدود تصور هؤلاء المغتبطين المسرورين بحجم كراهيتهم للناس. لا تهتم التقليدية بالقواسم المشتركة التي تجمع بين بني الإنسان، ولو كانت هذه القواسم بالملايين. التقليدية لا تبحث عن محاور تدعيم التآلف الاجتماعي، بل على العكس، تسعى لمحوها وإلغائها، أو تغييبها عن مجال الرؤية؛ لأنها مشدودة على مستوى اللاشعور إلى إقامة هويتها العامة من خلال تضخيم مبدأ الكراهية بين الناس أجمعين. طبعا، يحدث هذا المحو والإلغاء للقواسم الإنسانية المشتركة، بينما نقاط الاختلاف ولو كانت بعدد أصابع اليد الواحدة، يجري تضخيمها، والنفخ فيها، ورفعها إلى مستويات الرؤية الاعتقادية، ومن ثَمَّ إقامة مشاريع الكراهية عليها باسم الدين. الناس في كل مكان يُحاولون اقتناص أية مناسبة للفرح العام، كالأعياد الدينية، والأيام القومية؛ من أجل استغلالها؛ لتدعيم روح التآخي والتراحم من جهة، وتحجيم مظاهر الكراهية والعداء من جهة أخرى. حتى أولئك الذين اقتضت الظروف السياسية أو التاريخية أو الاقتصادية أن يكون بينهم شيء من الصراع أو ما يشبه الصراع، يحاولون التعالي عليه في هذه المناسبات، يحاولون تجاوز حالة الكراهية بوصفها حالة مرض استثنائي عارض، مستعينين بهذه المناسبة لتحقيق أكبر قدر من الاستشفاء، ومن تجاوز الاستثناء إلى الأصل الإنساني السليم. لكن، ولأن التقليدية هي مذهب في الكراهية أصلا، نجدها لا تترك أية فرصة أو مناسبة، ولو كانت مناسبة فرح، إلا وتستغلها في التأكيد على ما يعزز مذهبها الاستثنائي في الكراهية. حتى أعياد الميلاد المجيدة التي يحتفل بها العالم من أقصاه إلى أقصاه دونما حرج أو تساؤل أو استفتاء، والتي تكاد أن تكون مناسبة عالمية يبتهج بها الجميع من شتى الأديان والثقافات، حاربوها ( = التقليديون ) بالتحريم والتجريم. والأدهى، والأعمق دلالة، أنهم حاربوها وجرّموها من مبدأ تحريم وتجريم إدخال السرور على قلوب المختلفين معنا في الدين !. يريد منا التقليديون أن نكره كل الناس، وأن يكرهنا كل الناس؛ حتى نكون في تصورهم مؤمنين صادقين. يحاولون إقناعنا بأننا بتبني هذه الكراهية، واستغلال مناسبات الفرح والسرور لتأكيدها؛ نكون أوفياء لديننا، ومخلصين لمذهبنا. إنهم يُصدرون الفتاوى تلو الفتاوى التي تُحرّم التهنئة بأعياد الميلاد، فضلا عن المشاركة فيها، بل ويُرهِبون بعصا التكفير كل من يتجرأ؛ فيشارك إخوانه المسيحيين فرحة الاحتفال بهذا العيد، هذا العيد الكبير الذي يجب أن يكون فرصة للتعبير عن انفتاحنا على الآخر، بدل أن يكون فرصة لتقديم شهادة واقعية على انغلاقنا على ذواتنا، وكراهيتنا للآخرين. طبعا، لا نستغرب مثل هذه الفتاوى اللامعقولة من منظومة اللاعقل ( = التقليدية )، لا نستغرب مثل هذه الفتاوى المعادية للإنسان من منظومة تهميش وإلغاء الإنسان. إنها فتاوى غير مستغربة في سياقها؛ لأنها تتسق منطقيا مع بُنية التصور التقليدي للوجود الإنساني، إذ نعلم أن هذه المنظومة التي تحرم وتجرم مشاركة الآخرين أفراحهم، هي ذاتها المنظومة التي تحرّم التبسم في وجه الآخر المختلف، بل وتطالب ( كما في فتاوى بعض الهالكين من سدنتها ) بأن نبصق في وجوه المختلفين معنا مذهبيا، رغم اتفاقنا معهم في أصل الدين !. الغريب أن بعض من يحاول الانفتاح من أتباع التقليدية الاتباعية قام بما يتصوره إنجازا كبيرا في مسيرته الانفتاحية، فأباح مشاركة الآخرين مناسباتهم وأفراحهم بشرطين: أن تكون المناسبة غير دينية، أو انفصلت مؤخرا عن كونها دينية، وأن تكون بنِيّة هداية هؤلاء الآخرين إلى الدين القويم. لا يخفى أن هذا سلوك انتفاعي محض، سلوك مخادع بل ونفاقي، سلوك يجعل عاطفة الحب الإنسانية مشروطة بشرطي خفي مضمر من شأنه أن يُشوّه عاطفة المحبة، ويجعلها، وهي العاطفة الأسمى، مجرد وسيلة انتفاعية؛ حظها في الخداع والنفاق أكبر من حظها في الصدق والإخلاص. نحن اليوم نريد غير ما تُريده التقليدية لنا. نحن نريد أن ننفتح على العالم كله، نريد أن نكون قابلين ومقبولين في آن، نريد أن نمنح الآخرين صادق وخالص محبتنا، كما نريد أن يمنحنا الاخرون صادق وخالص محبتهم. لا نريد أن نكون مكروهين ولا منبوذين في أي مكان ولا في أية مناسبة. وباختصار: نريد أن نكون بشرا أسوياء، لا كما يريدنا التقليديون أن نكون. طبعا، هذا لا يتحقق إلا بأن نضمن أنفسنا أولا، بأن لا نكون كارهين ولا نابذين لغيرنا. أن نفصل ونقطع مع التقليدية؛ لأن التقليدية بكل أدبياتها التي تنضح بالكراهية، تريد منا أن نكون كارهين ومكروهين، نابذين ومنبوذين، ساخطين على كل العالم، ومحل سخط كل العالم. أي أن التقليدية تريد منا أن نقيم بيننا وبين العالم جدارا من نار، بدل كل جسور التواصل التي بنيناها أو نأمل في بنائها، تريد من ذلك؛ معتمدة في إقناعنا بهذه الروح الانفصالية العدائية على تراث موبوء مشحون بمقولات الاحتراب والصراع. لهذا، ومن باب مراغمة التقليدية من جهة، وتحقيق التواصل مع كل أطياف العالم الإنساني من جهة أخرى، نتقدم بالتهنئة لكل الناس بهذا العام الميلادي الجديد، مشاركين لهم الفرحة بقلوبنا قبل عقولنا. نقول بملء أفواهنا لكل المنفتحين على الحب والإخاء الإنساني، من كل الأديان والمذاهب والطوائف: هنيئا لكم كل مناسبة فرح، هنيئا لكم هذا العام الجديد الذي نأمل أن يكون عام خير على الجميع. وفي المقابل نقول لأتباع التقليدية: هنيئا لكم اختياركم اللامعقول أن تكونوا كارهين ومكروهين. نقلا عن الرياض