تُهيمن الرؤى التقليدية (الخطاب التقليدي) على مساحات شاسعة من العالم الإسلامي ، تتمدد على مساحات من الجغرافيا الواسعة التي تؤكد حقيقة الهيمنة على المساحات نفسها من الوعي . الهيمنة في الغالب هي للرؤى التقليدية ، وليست للإسلام المشتعل برؤى التنوير ، ليست لهذا الإسلام الذي لا يزال للأسف بعيدا عن مجالات التأثير ، ولا يمتلك إلا القليل من القدرة على النفاذ إلى الوعي الإسلامي العام الذي لا تزال تطحنه رؤى التخلف والتعصب ومقولات الخرافة منذ ألف عام . هذه الهيمنة ، وبصرف النظر عن ملابساتها النظرية والتطبيقية ، هي التي تصوغ السلوك الإسلامي العام ؛ على اختلاف بين الأقطار الإسلامية في مدى تفردها بهذا النفوذ . لكنها تبقى هي الأشد تأثيرا في المجتمعات المحافظة ذات المنزع التقليدي ، بل ربما تكون هي المؤثر الوحيد ذا الفاعلية الحقيقية ، وما سواها لا يعدو كونه مجرد اعتراضات هامشية ، تؤكد هيمنة المتن التقليدي وتفرده بكل منافذ التأثير . وهذا يعني أن كل السلوكيات ، سواء كانت إيجابية أو سلبية ، وخاصة تلك السلوكيات التي تقع في ميدان اهتمام التوجهات الروحية ، هي من مسؤولية الخطاب التقليدي الذي إن حاز باعترافه شرف منصب : المُؤثّر الأكبر ، فلا بد أن يتحمل الوجه الآخر من المعادلة ، أي كونه : المسؤول الأكبر عن الأفعال التي يُشرعنها صراحة ، أو تلك التي يشرعنها ضمنا بالسكوت عنها أو بمنحها مجرد هامش صغير من الاهتمام . هامشية البُعد الإنساني في الخطاب التقليدي الديني ، واضحة وجلية للعيان . بل الأمر أكبر ، إذ إن ما يحدث داخل المنظومة التقليدية هو عملية تشريع لهذا التهميش عن طريق طرح أنواع من التمايز والتمييز بين بني الإنسان . وهو طرح يبدأ من مجرد التمايز ، فالتمييز في المعاملة ، إلى أن ينتهي بضرورة تعمد الكراهية والعداء ؛ فالتقليدية تطرح المسألة الإيمانية في الإسلام بوصفها مسألة لا تكتمل إلا بكراهية المختلف لمجرد الاختلاف الديني أو المذهبي . أي أن الأصل لديها : هو أن يكون (الإنسان) مكروها ، ولا ينقذه من هذه الكراهية المشرعنة إلا أن يتنازل عن كل خياراته الدينية والمذهبية بل والفكرية ؛ ليتطابق تماما معها . وإذا لم يفعل ذلك ؛ فإنه سيبقى مكروها بمُوجب فرمان ديني عقدي ، تُصدره التقليدية وتُلزم به أتباعها البؤساء ؛ الذين يتحولون إلى كارهين ، ومن ثم إلى مكروهين يتساءلون : لماذا يكرهنا كل الناس ؟ إذن ، وفق هذه الرؤية التقليدية ، لا يكتمل التّدين ، بل لا يتحقق الدين ، إلا بكراهية (الإنسان) ؛ مهما كان هذا (الإنسان) طيبا ومُصلحا ومحبا للناس . وهكذا تُصبح الكراهية هي الأصل في التعاطي مع كل المختلفين لمجرد اختلافهم . الكراهية وفق منظور هذا الوعي التقليدي المشحون بلهيب العداوة والبغضاء تصبح دينا ، والتقليديون لجهلهم ، ولغبائهم المستحكم بفعل التقليد ، لا يدركون أنهم بهذا يمنحون أعداء الإسلام فرصة أن يصفوا الإسلام ب: دين الكراهية ؛ مستشهدين بمقولات التقليديين التي تجعل من الكراهية (كراهية غير المسلم وغير التقليدي) شرطا للإيمان . لم تكن هذه المقولات التقليدية التي تقتات على مخزون هائل من الكراهية مجرد مقولات تنظيرية بعيدة عن الواقع ، بل على العكس ، كانت ولا تزال ، وبفعل هيمنة الخطاب التقليدي ، هي التي تتحكم في تفاصيل السلوك العام ، بعد أن هيمنت على مجمل التصورات الذهنية التي تحدد طبيعة العلاقة مع الناس والأشياء . ولهذا رأينا الإنسان هامشيا في كل المساحات التي تخضع للنفوذ التقليدي ، أقصد الإنسان المجرد من أي صفة إضافية تشفع له ، وتحجب عنه سياط الكراهية ؛ حيث تُهيمن التقليدية ، ولا كرامة للإنسان ولا حقوق ؛ ما لم يمتلك صفة أخرى ، صفة تُضاف إلى كونه إنسانا . أي أن الصفة الإضافية تصبح في الخطاب التقليدي هي الأساس ، هي المتن ، هي التي تحدد طريقة التعامل معه ، بينما الصفة الأساس ( الإنسان) هي الطارئ والهامشي . إذا أدركنا هذا ، استطعنا فهم سر غياب المسلمين عن الفعاليات الإنسانية الصريحة في إنسانيتها ، كإغاثة وإعانة ضحايا الكوارث والحروب . إن كل الهيئات الإسلامية لا تنهض لإغاثة الإنسان ما لم يكن مسلما ، وأحيانا ما لم يكن مسلما تقليدا ، أي لا تغيثه لمجرد كونه إنسانا ، وإنما فقط لأنه مسلم . بينما نجد هيئات الإغاثة العالمية المنتمية لحضارة الإنسان ومعظمها مسيحية تساعد جميع المنكوبين بصرف النظر عن الملل والنحل ؛ لأنها تدرك أنها تغيث إنسانا كامل الإنسانية ؛ لا مجرد وسيط مادي لحمل الأفكار وإشاعة الإيديولوجيا الخاصة ، بحيث تتحدد قيمته بها . ليس هذا سرا ولا نقول جديدا في هذا الشأن ، إذ بإمكان المتأمل أن يلاحظ بسهولة هذا الغياب الواضح للمسلمين عن هذه الكوارث الإنسانية العالمية . لا ينفي حقيقة وجود هذا الغياب الواضح تلك المبادرات الحكومية النادرة ، ذات البعد السياسي ، بل هي مبادرات استثنائية ، تقع خارج النسق العام ، إنها مبادرات من فوق الوعي ، لا تحظى بتأييد الجماهير التقليدية التي تمَّ سحق الإنسان في وعيها بكل وحشية ، حتى أصبحت ؛ جراء ذلك ، متعصبة دون أن تعي ، ومعادية للإنسان بكل عناد وإصرار ، أي أن تلك المبادرات الحكومية ذات البعد السياسي ، تؤكد ولا تنفي وجود هذه الحالة : حالة غياب الإنسان عن الوعي العام . لننظر إلى واقعنا ، نحن نسمع ونرى بين الحين والآخر ، مجازر بشرية تُخلف وراءها عشرات الألوف من القتلى ، فلا تتحرك مشاعرنا لهذه المأساة الإنسانية ؛ لمجرد أن الضحايا غير مسلمين . تقع الزلازل والكوارث الطبيعية ؛ فتخلف وراءها عشرات الألوف من القتلى والجرحى . ومع هذا تبقى مشاعرنا باردة ، بل ربما وُجد بيننا بعض الشامتين . بينما نجد أن مقتل عشرة أو أقل في خطوط النار وفي حالة الصدام والصراع ، يثير فينا براكين التوجع والتفجع والغضب العارم ، ومجرد زلزال محدود أو فيضان نصف غاضب ، يخلف عشرة قتلى أو أقل ، يجعلنا ننوح ونهرع إلى تكوين اللجان الإغاثية ونبحث بهوس عن سخاء المتبرعين . بل إن مجرد نقص التموينات الكمالية عن هذه الجماعة المتطرفة أو تلك ، نظهرها وكأنها أعظم مأساة في العالم ! ، بينما المآسي الحقيقية لا تحرك فينا ساكنا ، فالمجاعات المُمِيتة في أفريقيا ، وقبل التبرع لها تجدنا نتساءل بوحي مما تهمس به التقليدية في أعماقنا : هل هم من المسلمين أم لا ؛ لنحدد : هل نهرع للإغاثة أم نكتفي بمشاهد المأساة ونحن نمضغ لبان الشماتة ؟! . ومع وحشية هذا السلوك ، فنحن لا نقف عند هذا الحد ؛ لأن سيكيولوجية الموقف من الآخر لابد أن تأخذ أقصى آمادها وتتشظى في كل الاتجاهات ؛ فالذي يكره الإنسان الآخر ويحتقره ويلغي إنسانيته لمجرد الاختلاف الديني ؛ فسيكره الإنسان الآخر ويحتقره ويلغي إنسانيته لمجرد الاختلاف المذهبي ، وهو سيفعل الشيء نفسه مع الآخر المختلف جنسيا ( المرأة) والآخر المختلف عرقيا (غير العربي) والآخر المختلف وطنيا ( غير المواطن) والآخر المختلف اجتماعيا ( الأدنى مكانة اجتماعية كما يتصور ، من موظفين ليسوا في منزلته أو عمال أو خدم ..إلخ) والآخر المختلف عُمريا (الأطفال). وهكذا ، يُصبح المجتمع ماكينة إلغاء واضطهاد واحتقار لأي مختلف لا يملك من النفوذ أو قوة القوانين ما يحميه من هذا الإلغاء المعنوي الذي يقود إلى إلغاء مادي ؛ لتكتمل حلقات سحق ومحو الإنسان . يحدث هذا التوحش بدرجات متفاوتة في أنحاء العالم الإسلامي ، يحدث بكل وضوح ودونما استنكار يفي بحجم الكارثة . وإذا كان الخطاب الإسلامي والإسلاموي والوعاظ التقليديون أيّدوا هذا أو تغاضوا عنه أو جعلوه في هامش اهتمامهم ، فالمفكرون التقدميون أو أغلبيتهم الساحقة ، ورغم كونهم يحملون على أكتافهم مهمة بناء عالم إنساني حقوقي ، ورغم كفاحهم في سبيل الحريات ، إلا أن القيم التي تأخذ الكثير من اهتمامهم تقف بالمقلوب على رأسها . وهذا ما نراه واضحا من خلال كون الأولوية عندهم هي للحقوق العليا ، كحقوق الانتخاب والترشيح وفرص الوصول للسلطة . أي أن الأولوية هي لحقوق النخبة الفكرية والسياسة التي يُمثلونها ، بينما تبقى حقوق العمال البائسين والعاملات الممتهنات في منازل ذوي اليسار في آخر القائمة ، وربما لا وجود لها . وكأن الإنسان ليس إلا مَن يمتلك القدرات لإثبات قدرته على التصدي لمنتهكي الحقوق ، بينما يبقى الضعفاء مجردين من إنسانيتهم ؛ لمجرد أنهم لا يمتلكون من المقومات الموضوعية والذاتية ما يكفل لهم إمكانية المناداة بالحقوق الإنسانية الأولى . إن غياب الإنسان كقيمة في الخطاب التقليدي الديني ، وعدم ظهوره بالدرجة الكافية في الخطاب التقدمي بكافة أطيافه ؛ جعلا الإنسان مُهمّشا لدينا على مستوى الفكر ، ومن ثَمَّ على مستوى الواقع . ربما يكون تهميش المرأة كإنسان ، ومأساة العمال والخدم ، هما الصور الأبرز والأوضح في واقعنا . وهي مآس مع وضوحها وضخامتها (خاصة وضع العاملات في المنازل = الخادمات) لا يزال خطابنا يتجاهلها عن عمد ، ويقدم عليها كثيرا من القضايا ذات البعد الترفي ، أو التي هي من فروع الفروع من الدين . لكن ، وبما أن قضية المرأة تحتاج لعدة مقالات متخصصة ؛ لتشعب إشكالياتها ، فضلا عن كونها موضع نقاش لا ينتهي ، فإن الإشارة هنا تتحدد في : مأساة العُمّال ، وعلى الأخص : الخادمات في المنازل . ربما يستطيع العامل الخروج من إطار عمله والتغلب على وضعه المأسوي إن وجد ، كما أنه وبوصفه رجلا يستطيع اكتشاف الفضاء المفتوح ، ومعرفة كيفية الوصول إلى استرداد الحقوق المسلوبة . لكن الأسوأ هو ما تلاقيه الخادمات في المنازل من حصار واقعي ونفسي ، ومن سوء معاملة ، تبدأ بعدم المخاطبة بالاسم ، وبرفع ساعات العمل إلى أكثر من عشر ساعات ، بل وربما تجاوزت عند بعض المتوحشين خمس عشرة ساعة ، إلى أن تصل إلى الاعتداء اللفظي بأنواعه ، وإلى التكليف بأعمال شاقة لا تتناسب مع طبيعة العمل الأصلي ، بل وربما وصل الأمر إلى الاعتداء البدني ، وتأخير دفع الأجور ...إلخ ، فضلا عن بعض السلوكيات التي لا يراها بعضنا خرقا لحقوق الإنسان ولا امتهانا لكرامته ؛ لمجرد أنه اعتادها في تعامله مع الآخرين . إن المأساة ليست محدودة ولا عابرة ، ولا يجوز أن تبعد عن دائرة الضوء ؛ لمجرد أن ضحاياها ليسوا في دائرة الضوء . إننا إذا عرفنا أن عدد الخادمات لدينا بالملايين ، عرفنا حجم المأساة الإنسانية التي تنتظر منا الكثير ، خاصة ممن يزعم أنه ينتمي إلى خطاب ديني ذي أبعاد إنسانية ، تهتم بالإنسان بصرف النظر عن أي انتماء . لابد من حلول . والحل الأولي لن يكون بسَنّ قوانين رادعة ؛ رغم أهمية ذلك ، بل بتغيير تراتبية القيم في الوعي . لابد أن تكون قيمة الإنسان تتحدد بمدى إنسانيته ، وأن يكون معيار سقوطه هو : انتهاكه لحقوق الإنسان . لن تنتهي المأساة ؛ ما دامت مسألة هامشية : كالحجاب مثلا ، تحظى من رموز الوعظ الديني بأهمية تتعدى مسألة الظلم الواقع على العاملات في المنازل . إن رفع الظلم وخاصة عن الضعفاء ، والتصدي لكل اعتداء على حقوق من لا يستطيع الدفاع عن نفسه ، لابد أن يأخذ مكانه الحقيقي كما في نصوص الوحي الأولى ، النصوص التي رافق فيها تقرير وحدانية الله ، تقرير حقوق اليتيم والمسكين والضعيف . هناك مأساة في الخطاب تجسدت مأساة في الواقع . ولإدراك ذلك ، تأمل حجم الخطب والمواعظ والمحاضرات التي تُحدّد للمرأة تفاصيل ملابسها ، مقارنة بالتي تُحدّد للمرأة نفسها كيفية التعامل الإنساني مع خادمتها ، وسترى الفرق الهائل في الخطاب ، وهو الذي يرسم حدود المأساة في الواقع . التراتبية الموجودة الآن ليست هي التي في صريح الإسلام . في الإسلام ، امرأة دخلت النار في (هرة حبستها) ، أي أنها امرأة كانت تستحق الجنة المشروطة برضوان الله ، ولكنها بسبب حبسها لحيوان ذي روح ، وتسببها في موته ، دخلت النار . في المقابل يطرح الإسلام قصة أخرى : امرأة بَغيّ (عاهرة) أنقذت كلبا من العطش بشربة ماء فدخلت الجنة . ومقارنة عابرة بين ما جرى للمرأتين ، تُظهر لنا البعد الإنساني للإسلام ، وأن الأولوية فيه للروح الإنسانية التي ترحم الضعفاء ، هذه الروح التي لم تشفع فقط لامرأة لم تضع الحجاب ، أو حتى لامرأة متبرجة أو مُتعرية، وإنما شفعت لامرأة كانت تمتهن البغاء . وهذا يدل على تراتبية أخلاقية عالية في الإسلام ، لا يزال خطابنا التقليدي يتنكر لها بكل إصرار . عندما نتأمل حال المرأتين في المثال السابق ، نتساءل : هل يطرح الخطاب التقليدي المسألة الإنسانية وفق هذه التراتبية ، وهل الوعي العام الذي صاغه هذا الخطاب يؤمن بهذه التراتبية الإنسانية الإسلامية ؟ . الجواب في تقديري يتضح بطرح مثالين لامرأتين مسلمتين من واقعنا : الأولى ، امرأة محافظة جدا ، وتلتزم بكل تفاصيل ما يمليه عليها الخطاب التقليدي في اللباس ، وتشارك في الجهود الدعوية ، ولكنها تُجبر خادمتها على العمل خمس عشرة ساعة وربما أكثر . والثانية : امرأة تمتهن التمثيل ، وتقع في تبرج أو تجاوز شكلي ، وهي أخطاء (أخطاء لا خطايا) بلا شك ، ولكنها في الوقت نفسه تعامل خادمتها بإنسانية عالية ، ولا تلزمها بأكثر من ساعات العمل المحددة نظاما . وهنا يأتي السؤال : أيٌّ من المرأتين يراها المجتمع المتدين ملتزمة أكثر من الأخرى بتعاليم الإسلام ، أيهما أكثر إسلامية في نظر المجتمع ؟ . طبعا ، كلنا يعرف الجواب ، والجواب هو ما سيحدد حقيقة تراتبية القيم لدينا ، والتي هي للأسف تراتبية لا تعكس تراتبية الإسلام ، وإنما تعكس حقيقة غياب الإنسان عن الوعي العام