من الممكن القول إن إغلاق باب الاجتهاد مثل أخطر أزمة فكرية أصابت العقل الإسلامي في الصميم، وتأثر منها الفكر الإسلامي في جميع مراحله الزمنية والتاريخية، وأعاقت تطوره وتقدمه في المجالات كافة، وشلت قدرته الاجتهادية في مواكبة تطورات الزمن، وتحولات العالم، وتجددات الحياة، وعطلت إمكانية التواصل والتفاعل مع حركة ونهضة العلوم والمعارف الإنسانية. وخطورة هذه الأزمة تكمن في أنها حصلت منذ وقت مبكر يرجع إلى القرن الرابع الهجري، وبقيت هذه الأزمة واستمرت بكل تداعياتها ومضاعفاتها إلى اليوم، واعترف الجميع بحصولها علماء وفقهاء ومؤرخين، وكشف هؤلاء عن خطورتها وفداحتها، وعرفوا بالأرضيات والسياقات التي تأثرت بها، وكيف أجبرت هذه الأزمة على اتخاذ هذه الخطوة بالإعلان صراحة عن إغلاق باب الاجتهاد، الباب الذي ما كان ينبغي أن يغلق أبدا، وأن يظل مفتوحا أبدا. وقيل على لسان العلماء والفقهاء والمؤرخين إن إغلاق باب الاجتهاد جاء لوضع حد لحالة الفوضى والاضطراب التي بلغت في المجال الديني والفقهي درجة حرجة وخطيرة، ونقل الخطيب البغدادي في كتابه (تاريخ بغداد)، أن البعض صار يحلل تارة، ويحرم تارة في القضية الواحدة. وقيل إن هذا الإغلاق جاء لإيقاف تدخل الحكام وأهل السياسة في أمور الشريعة والدين، وذلك بعد أن تمادى هؤلاء في تدخلاتهم، وسوغوا لأنفسهم هذا العمل من دون وجه حق، وتعمدوا إثارة النزاع والشقاق والانقسام بين العلماء والمذاهب والجماعات، بتغليب طرف على طرف آخر، وترجيح رأي في مقابل رأي آخر، وتقريب جماعة على حساب جماعة أخرى، وهكذا، وأوضح شاهد على ذلك قضية خلق القرآن التي وصفت في تاريخ الثقافة الإسلامية بالمحنة، في إشارة إلى خطورتها، وكيف أنها أحدثت شرخا وانقساما في الأمة ما زال إلى اليوم في ذاكرة الثقافة الإسلامية. وقيل إن هذا الإغلاق حصل في ظرف شاع فيه التعصب المذهبي، الذي كرس الخلافات، وأورث النزاعات الفقهية والكلامية، وكانت له امتدادات وتداعيات ثقافية واجتماعية في مجتمعات المسلمين، وقد ضاقت الأمة ذرعا من هذا التعصب الذي رسخ حالة الجمود والتقليد، وعطل حالة الإبداع والابتكار، وأخذ البعض يتحدث عن حالة من الانحطاط الفكري والثقافي أصابت الأمة. هذه الأزمة والوضعيات التي تولدت منها وما ترتب عليها، كانت لها تداعيات مباشرة على فكرة العقلانية، فقد أسهمت في تعطيل نمو وتطور هذه الفكرة في ساحة المسلمين، وأدت إلى ضمورها وتراجعها، وحجبت الرؤية عنها، وقلبت طريقة النظر إليها، وغلبت موقف الخشية منها. ولو أن باب الاجتهاد بقي مفتوحا، ولم يغلق لكانت صورة الموقف تجاه فكرة العقلانية في المجال الإسلامي، مختلفة عما هي عليه اليوم. نقلا عن عكاظ