إذا كان وصف (التاريخي) ينطبق على كل ما ينتمي إلى العصور السابقة فإن جدة كلها يمكن أن تكون (تاريخية) وليس فقط المنطقة القديمة التي فشلت كل محاولات إنقاذها من وضعها البائس وتبرأت منها منظمة اليونسكو، فهذه المنطقة القديمة تكشف أن الأجداد كانوا أكثر تطورا من الأحفاد لأنهم صنعوا مدينة جميلة تنتمي إلى عصرهم رغم محدودية إمكاناتهم في الماضي بينما فعل الأحفاد الشيء النقيض حيث استغلوا الإمكانات الكبيرة لبناء مدينة ليس لها أية علاقة بهذا العصر باستثناء المولات والفنادق الفاخرة. صباح يوم الجمعة كنت أسير في شوارع جدة بين وايتات المياه العذبة البيضاء ووايتات الصرف الصحي الصفراء فمن ذا الذي يقنعني بأنني أتجول في مدينة تنتمي للقرن الواحد والعشرين؟! لقد شعرت بأن السيارة تحولت إلى آلة الزمن الأسطورية وأنني قد عدت إلى سبعينات القرن الماضي! قبل قدومي إلى جدة كنت في مدينتين خليجيتين متباعدتين ولم أشاهد أبدا أبدا هذا الكائن الخرافي الذي يسمى (الوايت).. فأيقنت أني أعيش في رحم التاريخ! الشيء الوحيد الذي أعادني لزمننا هذا هو ارتطام رأسي بسقف السيارة بعد المرور على حفرة في منتصف الطريق، لذلك أقول لكم بكل أخوة: لا تلتفتوا أبدا إلى التصريحات المتعلقة بإصلاح طرق جدة.. فقط اذهبوا إلى أي حلاق في جدة واسألوه عن عدد النتوءات في رؤوس زبائنه لتكتشفوا أن كل المشاريع تعاني من الصلع وكل التصريحات (زلبطه)! كل شيء في جدة تاريخي.. باستثناء روحها المرحة، وهي اليوم تستعد لاستقبال سياح الداخل الذين أصبحوا يحلمون بتوفر خدمة لطائرات الهيلكوبتر تنقلهم من الفنادق أو الشقق المفروشة إلى المولات أو الأماكن السياحية دون المرور على البنية التحتية التي لا تنتمي إلى هذا العصر ولا تليق بمدينة رائعة مثل جدة. كان من المفترض أن تستفيد جدة من الاضطرابات السياسية التي يعيشها العالم العربي وتصبح وجهة سياحية لكل السعوديين بل وحتى الخليجيين، ولكنها للأسف مدينة عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية لأهلها فما بالك بالسياح الذين يبحثون عن أفضل الخدمات، ولهذا السبب ظهرت مدن أخرى لم تكن موجودة في يوم من الأيام على الخرائط السياحية مثل (أبو ظبي) التي استقطبت فنادقها حوالى 20 ألف سائح سعودي خلال أربعة أشهر فقط.. ولو عدنا إلى صورة المدينتين قبل عشرة أعوام فقط لاكتشفنا أن الزمن في أبو ظبي كان يسير إلى الأمام بينما الزمن في جدة يحث خطاه باتجاه الوراء! أعلم أنكم مللتم من الحديث عن مشاكل جدة.. ولكن ماذا أفعل؟ فقد ارتطم رأسي بسقف السيارة مرة أخرى بسبب حفرة في منتصف الطريق فلم أجد غيركم لأحدثه عن مدينة غرقت مرتين بمياه الأمطار وغرقت ألف مرة في بحر التصريحات الوهمية! نقلا عن عكاظ