خلال سنوات مضت استنفذت النخب السعودية الدينية والثقافية والإعلامية كثيرا من لياقتها في معارك كان موضوعها هو الناس والمستقبل، ومردها إلى اختلاف الرؤى حول الصورة المستقبلية للوطن، مع أن مثل هذه الصراعات هي في الواقع صراعات تقليدية، والمعاصرون الذين ينتمون لتلك النخب باتوا يدركون أن الشارع والناس يصنعون مستقبلهم وتطلعاتهم بأنفسهم وبطموحاتهم، مع أنه من المفترض أن يكون الخلاف في ظل الواقع السعودي الحالي خلافا تنمويا، نظرا لأن الحياة الحديثة لا تسمح بتطبيع الأفكار بين الجمهور، وإنما تدور محاورها حول ما يجده الجمهور بالنسبة لهم مجديا وملائما لطموحاتهم، بمعنى أنه لا يمكن إقناع كل من يختلفون حول سفر المرأة (بدون محرم) برأي واحد، لكن كلا الطرفين يجمعان على أن من حق من يسافر أن يحظى بخدمة سفر ذات جودة عالية، وبالتالي لم يعد الخلاف على الأفكار لأنها تؤثر في قرارات الناس، وإنما الخلاف على الحقوق، ولعل من أبرز أخطاء تلك الصراعات أنها جعلت من الحقوق مادة لصراعها. هنا تبدأ نقطة الخلاف، فالذين يجادلون مثلا ويرون تحريم قيادة المرأة للسيارة، هم يجادلون ضد حق مشروع، وليس ضد مسألة فكرية، ذلك أن من ينطلقون من وجهة نظر شمولية تأخذهم المواجهة إلى حد التعامل مع الحقوق الشخصية على أنها أفكار، وهنا تبدأ المواجهة، تماما كما كان يحدث في تحريم سماع الموسيقى وغيرها من السلوكيات منذ سنوات، ولا يمكن في واقع الحال أن نطالب الحكومة بأن تصدر قرارا يقضي بملاحقة كل من يثبت سماعه للموسيقى لأنها مهما كانت قضية عادلة فقهيا إلا أنها ليست عادلة حقوقيا ووطنيا وقانونيا. طوال السنوات الخمس الماضية ازدادت حدة المعارك النظرية بين توجهات شمولية ذات وعي تقليدي، وبين توجهات حديثة ذات وعي تقليدي يؤمن بقليل من الحرية التي تنسجم مع ازدهار ثقافة المؤسسات، ولأن الشمولي الديني غالبا ما يتمتع بلياقة تكسبه القدرة على التحول من كونه ضعيفا في حجته إلى الادعاء بأنه ضعيف في أدواته (لاحظوا تهمة أن الصحافة مختطفة وخاضعة لسيطرة فريق دون غيره) لإخفاء ضعفه العلمي والحقوقي والقانوني والديني أيضا حين يجادل في حقوق الناس، ونتيجة لذلك اتجهت المعركة إلى مساحات أوسع. أيضا طوال السنوات الماضية ومع ما كان يوجه من نقد لكثير من الأفكار ذات الطابع الشمولي فلم يكن ذلك لأن ثمة تحزبا ضدها، بل لأن ثمة ممانعة تبدو من طرفها تكاد أن تعيق الخطوط التنموية الواسعة التي تتجه إليها الدولة، ومختلف مسارات التنمية ليست مسارات اختيارية بل الكثير منها نتيجة تطور طبيعي لحركة الناس والمجتمع فاتجهت الصحافة إلى نقد الممارسات والسلوكيات والأخطاء ولم تتجه إلى نقد الأفكار، بمعنى أنه ورغم اتجاه كثير من الكتاب إلى نقد أخطاء ومواقف هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم يتجه أحد منهم لنقد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقيمة، ولذلك كانت من حجج المتشددين والرافضين أن تعاملوا مع نقد المواقف على أنه نقد للقيمة، وكل ذلك من أجل إيجاد مزيد من التبرير لمعركتهم المفتعلة، ومع أن كثيرا منهم اتجه ليحول الخلاف إلى خصومة، وبعضهم فجر كثيرا في تلك الخصومة إلا أن كل ما كان يتم رفضه وممانعته من قبل كثير منهم وبخاصة ما يملك الناس فيه خيارا اتجه إلى واقع يمارسه الناس ويرتاحون له. ولم يتوقف الابتعاث ولم يتوقف سفر السعوديين للخارج، ولم يتغير المجتمع نتيجة تلك المواقف بل استمر في خطواته. إذا كان ثمة تباين في الحراك الاجتماعي السعودي، فإن الدولة بمؤسساتها عليها أن تتجه لتلبية مختلف أشكال الحراك، ولا يمكن لها أن تلبي حاجة ومطالب طرف على حساب الآخر، وذلك شأن الدولة الواعية دائما. الواقع الجديد الذي تعيشه الآن المجتمعات العربية، وما تحويه من ثورات وخروج سريع من المناخات القديمة إلى مناخات جديدة وثائرة، ساعد على أن يستوقف السعوديون أنفسهم وأن تعيد النخب والمؤسسات قراءة موقعها من معارك عادية وطبيعية، أمام معارك حقيقية تدور حول الاستقرار والتنمية والمستقبل. وفي اليوم الواحد كنا نشاهد أكثر من نموذج سعودي من ذوي التوجهات المختلفة كلهم يتفقون مثلا على أن هناك خطرا إيرانيا ما يهدد المملكة وأن الجميع عليهم أن يقفوا في وجهه. وهو اتفاق يشير إلى أن ثمة منطقة يمكن أن يجتمع فيها المختلفون إذا كان الخطر وطنيا واحدا. ما الذي حدث بعد ذلك؟ في الواقع حاول كثير من المتشددين والتقليدين ومن ليسوا بأصحاب موقف علمي تجيير كل ما يحدث على أنه لصالح طرف دون آخر، وحتى القرارات الملكية السامية الأخيرة حاول البعض قراءتها على أنها انتصار لطرف دون آخر. لكن الذين يدركون طبيعة الواقع السعودي يخالفون ذلك تماما، ومع كل الخير والرفاه الذي حملته القرارات الأخيرة، فإن كل تفاصيلها اشتملت على ما يعد ضمانة استقرار لوضع قائم بالفعل. الدعم المادي (وليس الفكري) الذي حظيت به الهيئات والشؤون الإسلامية، هو في الواقع دعم من الدولة لمؤسساتها هي، فلا هيئة الأمر بالمعروف ولا حلقات التحفيظ تمثل جماعات خارج مؤسسة الدولة، ولا هي فيالق احتسابية كالتي شاهدناها في معرض الكتاب وغيرها، بل هي في نهاية المطاف مؤسسات رسمية لا يمكن أن يمثل دعمها أي خروج عن مسارات الدولة وخطوطها ورؤيتها، وبالتالي فدعمها دعم لرؤية الدولة لقطاعات هي في أصلها ذات توجه شمولي استطاعت الدولة أن تزيح عنها طابعها الشمولي إلى طابع مؤسساتي، وهو ما يمثل مبررا منطقيا لدعمها. ماذا لو مات مواطن آخر غدا بسبب خطأ أو مطاردات من رجال الهيئة، وماذا لو صدرت فتوى ضد مشروع تنموي من مشروعات الدولة، وماذا لو صدر رأي فقهي ضد علاقة الدولة بالمؤسسات الدولية العالمية، وماذا لو جاء خطيب وتحدث بنفس اللغة التي تحدث بها العريفي مؤخرا؟ بالتأكيد ستتجه مختلف وسائل الإعلام والأقلام الوطنية لتناول ما جاء في خطابه. أليس ذلك دليلا على أن الحصانة الفعلية في حياة السعوديين، هي حصانة للوحدة والتوجهات المستقبلية العصرية الوطنية؟ بالفعل إنها كذلك. نقلا عن الوطن السعودية