يجري على الساحة الإيرانية صراع مفتوح بين المثقف الإصلاحي والفقيه التقليدي، ويتنبأ المراقبون أن الصراع سيحسم في النهاية إلى الفكر الإصلاحي، وأن ولاية الفقيه ستزول حتمًا لأنها لا تتفق مع التطور الطبيعي في حياة الشعوب. ولا شك أن بعض السياسات المؤدلجة بالمصالح الضيقة والفئوية تقف خلف محاولات اختطاف السلطة في إيران، وعادة ما تعمل حكومة ولاية الفقيه أن تنقل مشاكلها الداخلية إلى الخارج، وذلك من أجل صرف نظر المواطن البسيط عن أزماتها الداخلية، وقد عانت الدول المجاورة، منها العراق وبعض دول الخليج من امتداد الذراع الدينية لولاية الفقيه إليها، وتكمن الإشكالية أن الفقيه يحكم من خلال رؤية ضيقة لا تتجاوز فهمه الأحادي لبعض النصوص، بينما يفتح الفكر المستنير أبواب التقدم والتطور للجميع من خلال البحوث العلمية والحرية الفكرية. ليست تلك الصورة في الصراع بجديدة على التاريخ الإنساني، فقد كان أهم جذور الخلاف بين «أثينا» و«أسبارطة» يدور حول موقفهما من النقد والفلاسفة والفنانين، فقد كان الأثينيون يحكمون بالديموقراطية ويبجلون المفكرين والفنانين، بينما كان الأسبارطيون يغلقون الأبواب أمامهم ويعتبرونهم خطرًا لأنهم يشجعون الأفكار الجديدة، ويعتقد الأسبارطيون ضمن اعتقادات أخرى أن الفكر والفنون والآداب هي نوع من الضعف والاستسلام والنعومة غير المستحبة، وما حدث بين المدينتين رسم أبعاداً رمزية في قضية الخلاف المزمن بين «الساسة»، و«المفكرين»، لتبقى «أثينا» مدينة أفلاطون الفاضلة حلمًا إنسانيًا يحلم بتحقيقه الفلاسفة والمفكرون في الحياة الدنيا، بينما ظلت أسبارطة صورة مفبركة ل «المدينة» الفاضلة عند الساسة في ذلك الزمن، وفي فترات طويلة من التاريخ الإنساني. لم تنجح الحضارة العربية الإسلامية في تجاوز عنق الزجاجة في مرحلة الصراع بين النقل والعقل أو بين الفقيه والمفكر، ولو تجاوزته لحكموا العالم إلى الوقت الحاضر. وقد كان الخليفة المأمون نصيرًا لانفتاح العقل وتحريره من الخوف غير المبرر من ثقافات الشعوب الأخرى، فشجع الترجمة والبحث العلمي، لكن ذلك سقط أمام تصاعد سلطة الفقيه لتبدأ مرحلة الانزلاق نحو الانغلاق وثقافة الرسائل والفتاوى، وقد ساعدت هيمنة سلطة الفقهاء في تقويض الثورة العربية العلمية الكبرى، وفي تحريم العلوم التجريبية ومنها الكيمياء، وكان لهذا الموقف السلبي ضد العلوم الأساسية وعلمائها أثره الكبير، وكان جرمهم أنهم يخطئون ويرددون أفكاراً خاطئة، ولم يدركوا أن الخطأ يمثل أحد أوجه أسس العلم التجريبي، وكان للتحريم أثره السلبي على تدريس العلوم الطبيعية، فعلى سبيل المثال كانت المدارس العلمية في بلادنا تخلو مقرراتها من الرياضيات والفيزياء والكيمياء إلى وقت قريب، وكان تعريف العلم حسب تلك الرؤية ينحصر فقط في العلوم الشرعية.. وكان الضحية تخريج فقهاء لا يفقهون شيئًا في العلوم التجريبية، ومن ذلك الموقف بدأت مرحلة الصراع مع منتجات العلم الحديث. أزمتنا أن الفقهاء بشكل عام لا يدركون حاجات العصر، ولا يستطيعون فهم التضخم والبطالة وأهمية نقل المعرفة والبحوث العلمية التجريبية، ولذلك دائما ما يقعون في مأزق المواجهة مع العلم الحديث والأزمات الجديدة، ولعل أكبر تحدٍ نواجهه هو إنتاج التطرف من خلال التقوقع حول خصوصيتنا، والسبب أن الفقيه لا يشعر بأهمية العلم والتقدم، وضرورة ثقافة المواطنة، وأهمية التواصل مع العلم الحديث، ناهيك عن مواقفهم السلبية تجاه النساء وحقهم في العمل، والتي قد ينتج عنها بطالة وفقر وفساد قد يعصف بحياة بعض الأسر، وقد تتفاجأ الحكومة مستقبلاً بأعداد طلبات التعويض عن البطالة من النساء وقد يستطيع المسئول في الوقت الحاضر تعويضهم ماديًا، لكن مع تصاعد متطلبات مراحل التنمية، سيكون التحدي في إيجاد وظائف لهؤلاء النسوة. خلاصة الأمر أن سلطة الفقهاء قد تكون لها جوانب إيجابية في مواجهة بعض الأزمات، لكنها قد تكون أرضية جديدة لبروز مزايدات أخرى في مسألة أين يجب أن تتوقف حدود تطبيقات الحقيقة؟، إضافة إلى أنهم يؤمنون بولاء مزدوج، أحدهما مؤقت للحاضر الذي يساير بعضًا من مطالبهم، وآخر إلى الغائب المنتظر الذي ستتحقق على يديه حلم الدولة الدينية المنتظر، لذلك نحتاج في سياسة الدولة إلى فقه الولاية لا إلى ولاية الفقيه، فالتفقه في فهم متطلبات العصر مطلب ضروي من أجل إيجاد الحلول لأزماتنا المزمنة. نقلا عن الجزيرة