أتمنى من كل قلبي أن تنجح هيئة الفساد في اقتلاع شجرة الفساد كثيفة الأغصان من جذورها، واسأل الله أن يعين رئيسها محمد الشريف على تحقيق هذه المهمة الصعبة والمعقدة كي يستطيع الوقوف في وجه كل فاسد (كائنا من كان) كما جاء في الأمر الملكي، ولأن هذه الهيئة تعني كل مواطن سعودي فإنني أتمنى من رئيس هيئة الفساد أن يسمح لي بأن أخرجه قليلا من دائرة التفاؤل الشعبي الطبيعي الذي صاحب الإعلان الملكي عن تأسيس هذه الهيئة وأذهب بحديثي معه إلى منطقة قد لا تكون متفائلة ولكنها ليست متشائمة في الوقت ذاته بل هي منطقة للحوار الصادق انطلاقا من الحكمة التي تقول: (صديقك من صدقك وليس من صدّقك)!. فمكافحة الفساد تحتاج إلى منظومة شاملة من المؤسسات والقوانين التي تسهل على الهيئة قيامها بهذا الدور الشائك والصعب، ولا أظن أن هذه الهيئة وحدها سوف تستطيع القضاء على كل صور الفساد بل أنها لو اعتمدت على العزف المنفرد فإنها ستضع نفسها بين خيارين لا ثالث لهما: فإما أن تقف في بطن الوادي فيجرفها السيل العرمرم كما جرف بيوت جدة فتصبح نسيا منسيا وإما أن تقف على جبل بعيد فتتحول إلى إدارة بيروقراطية تقليدية فيأكلها الفساد من الداخل دون أن تشعر ويصبح هم موظفيها التوسط لأقربائهم بحثا عن وظائف جديدة أو انتدابات بعيدة!، وليس ثمة قرين للفساد مثل البيروقراطية ولكم أن تتخيلوا الأمر حين يكون هناك موظف على المرتبة السابعة مسماه الوظيفي (مكافح فساد) كي تعرفوا أن المسألة ليست بالبساطة التي نتوقعها. هذه الهيئة سوف تكون بحاجة ماسة للصحافة الحرة غير المقيدة فقضايا الفساد الإداري في أغلب دول العالم وحتى في السعودية تظهر في البداية في الصحافة ثم تنتقل إلى الجهات المعنية مثل أجهزة الرقابة أو البرلمانات أو القضاء، ومن المشاكل الأساسية التي تواجهها الصحافة السعودية أنها تكشف بعض قضايا الفساد ويكتب عنها كتاب الرأي ثم تنتهي القضية دون أن تكترث بها الجهات المعنية فيردد القراء المساكين العبارة اليائسة المكررة: (لا حياة لمن تنادي)، ومن سابع المستحيلات أن ينجح أي بلد في العالم في مكافحة الفساد مالم تكن مؤسساته الرقابية والقضائية مدعومة بالصحافة الحرة ولكم أن تتأملوا قائمة الدول التي تتصدر الحريات الصحفية في العالم ثم قائمة الدول الأكثر محاربة للفساد وستجدون أن الدول التي تحتل الصدارة في القائمتين هي نفسها (الخالق الناطق)!. وكذلك لا بد من تمكين الهيئات الرقابية مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق ومجلس الرقابة والتحقيق والمباحث الإدارية من الاطلاع على كافة العقود والمناقصات وطرق التوظيف في مختلف الجهات التابعة للدولة وأن تكون هذه الجهات الرقابية مرتبطة بشكل مباشر بهيئة مكافحة الفساد للإبلاغ عن أي مخالفة وتوزيع الأدوار فيما بينها كي لا تتداخل الصلاحيات فيختلط الحابل بالنابل أو تتكل كل مؤسسة على الأخرى. ولعل أهم مسألة تتعلق بمكافحة الفساد هي تمكين وسائل الإعلام من متابعة أي قضية رهن التحقيق كي لا يتسلح الفاسدون بجدار النسيان، فنحن حتى الآن لا نعرف ما الذي حدث للمتسببين بكارثة جدة ومن هو البريء ومن هو المذنب في هذه الكارثة الوطنية التاريخية، ولا نعرف ما الذي حدث لمن سرقوا البترول من ينبع، ولا نعرف مالذي حدث لقاضي المدينة المسحور، ومن واجب هيئة مكافحة الفساد الوليدة أن تخلق واقعا جديدا يمكن المواطنين من معرفة مصير القضايا التي أشغلت الرأي العام ثم طواها النسيان. مالم تتوفر كل هذه الظروف والمناخات التي تدعم مهمة هيئة مكافحة الفساد ومالم تكن مدعومة بمؤسسات رقابية حكومية وشعبية فاعلة ومالم تعتمد على صحافة غير مقيدة فإن هذه الهيئة سوف تتحول إلى مجرد مبنى بيروقراطي أنيق ولن تستطيع أن تخوض حربها الشرسة ضد قوى الفساد، بل أنها لو تركت وحيدة في مواجهة الفاسدين فإنها قد تغرق هي الأخرى في بحر الفساد وتصبح أقصى أفعالها تقرير سنوي تنشره الصحف وهكذا (لاطبنا ولا غدا الشر)!. نقلاعن عكاظ