السنوات العشر الأخيرة مثلت بحق واحدة من أهم المراحل وأكثرها تأثيرا في الحياة السعودية، فبرزت أنماط جديدة، وظهر جيل جديد من الشباب والفتيات، باتوا الآن في قلب العالم، وفي أقصى درجات التفاعل معه، واستطاعت التقنية الحديثة أن توجد قيما جديدة غيرت السلوك اليومي للملايين من الشباب السعوديين، وقدمت إدارة جديدة للتواصل والعلاقات الاجتماعية وبما يتبع ذلك من تغيير في مستوى التفكير والوقت والاهتمام . لا يمكن على الإطلاق مقارنة الواقع السعودي الآن بما كان عليه قبل هذا العقد الذي انقضى منذ أيام، ففي الوقت الذي كان فيه العالم بأكمله يمر بمرحلة من التحولات الواسعة والمتنوعة، كان الداخل السعودي وبالإضافة لتلك التحولات العالمية يعيش واقعا استطاعت الدولة من خلال مؤسساتها أن تستوعب فيه عملية التغيير وأن تكون جزءا من إدارتها . القيم المعاصرة والأفكار الجديدة في كل المجتمعات لم تعد من صنيعة الدولة، ولا من صنع مؤسساتها كما كان عليه الحال قبل ثلاثين عاما، حين كانت الدول تصنع وعي مواطنيها وتسهم في تشكيله، بل يقف العالم الآن بأكمله أمام نافذة مفتوحة تهب منها رياح التغيير، وتسهم في توحيد أشكال التأثر، واختلافها حسب الطبيعة الثقافية لكل مجتمع، والسعوديون الذين لا يختلفون الآن عن غيرهم من مجتمعات العالم واصلوا عملية التأثر والاندماج بالعالم وباتوا جزءا منه . بالمقابل، وحين استوعبت الدولة ذلك، اتجهت باستمرار لإعادة صياغة مؤسساتها، وخطابها بما يتلاءم مع هذا الجيل الجديد، فلم يعد وعي المؤسسة متقدما على وعي الناس كما كان عليه الحال من قبل، وليس أمام كل دولة إلا أن تسهم في إدارة هذا الواقع الجديد، وما نشهده الآن سعوديا من أفكار وقيم جديدة في مختلف المؤسسات هو نوع من قدرة الدولة على أن تكون حاضرة في مختلف المراحل، وأن تسير بوعي يتوازى مع وعي المجتمع . نقلات واسعة شهدتها السنوات العشر الأخيرة، وجولة واحدة في شارع جديد في الرياض أو في جدة، توضح أن جيلا قادما يفتقد ربما للوعي الثقافي، ولكنه ليس بحاجة إليه دائما، فهو يحتاج في المقام الأول إلى وعي سلوكي تفرضه القيم المدنية التي يحرسها وينفذها القانون، مما يعني حاجة كل المؤسسات من وزارات وهيئات إلى أن تكون بمستوى هذا الوعي الذي سيتصاعد يوما بعد يوم، ليكون قادرا على إدارة احتياجات الجماهير الجديدة . الأفكار التي تدور الآن في الحياة السعودية عن الحقوق والحريات وحقوق المرأة وأهمية النظام لم تأت بفعل محاضرة أو ندوة حضرها شاب هنا، أو فتاة هناك، ولكن الوعي الجديد يربط دائما بين أسئلة الجدوى والاحتياج والمصلحة الفردية والعامة، فمصلحة كل فرد مرتبطة بمؤسسة ما، لذا يدرك كل فرد حجم المنفعة التي ستعود عليه لو آمنت تلك المؤسسات بالحقوق وتساوي الفرص وابتعدت عن العيوب الإدارية والبيروقراطية، وكلها مطالبات تعتمد على وعي جديد، ورؤية تنشد إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح لكي يجد كل فرد حقه ويحصل على فرصته. وتوجه كثير من الوزارات الآن إلى إصلاح أجهزتها وتحديثها، ليس رغبة منها في تغيير أثاث قديم، ولكن لأن متطلبات الناس باتت بحاجة إلى تحديث المؤسسات التي تدير حياتهم، مما يعني أن الإصلاح وتحديدا في شقه الإداري، موشك على أن يتحول إلى مطلب اجتماعي عام، يحركه هذا الوعي الجديد لدى مختلف الشرائح . لكن الواقع يقول إن لدينا الكثير من الأخطاء والأمور التي يجب حسمها فورا، ذلك أن بعض المؤسسات ما زالت تمنح الناس قضايا لا قيمة لها، ولا يجب الانشغال بها، خاصة بالنظر إلى كل المجتمعات التي تحيط بنا، فليس من اللائق في هذا الوقت من عمر الحياة ألا تزال فتاة سعودية تتحدث عن حقها في قيادة السيارة، وأن يتحدث شاب عن رحلاته المكوكية لدخول دور السينما، فكثير من المجتمعات المحافظة حولنا حسمت مثل هذه القضايا اليسيرة، ومنحت وعي الناس قضايا أخرى يفكرون فيها ويطالبون بها . إذن فنحن أمام وعي ومرحلة لا يمكن العودة عنهما للوراء على الإطلاق، وما هو متحقق الآن من اتساع في هامش الحريات، ومن نقد لمختلف الجوانب التي حاصرت حياتنا طويلا يمثل مرحلة وليس حالة، والمراحل إنما يفضي بعضها إلى بعض، ولا يمكن العودة من مرحلة إلى مرحلة سابقة . لقد تجاوز المجتمع السعودي كثيرا من العوائق التي ظلت تحاصر حياته كثيرا، فالتشدد الديني الآن مثلا لم يعد يؤثر في حياة الناس ولم يعد خطابه جاذبا لهم، بل يعيش الناس حالة من الانصراف عن صوت الواعظ والفقيه المتشدد، وباتت قضايا التشدد في شقها النظري أقرب ما تكون إلى قضايا نخبوية، تتمثل في مقالات وردود ومواقع إنترنت، ربما لا يعرف الجيل الجديد عنها شيئا ولا تمثل له شيئا ذا بال، إلا أنه يراها ويعيشها عند بعض المؤسسات التي قد تستجيب لتلك الأصوات فتنحرف عن أداء دورها الوظيفي، وتصبح خائفة من الإنكار والاحتساب، وهو ما يمثل خذلانا حقيقيا للمجتمع وللأمانة وللمستقبل . إن التحايل على الواقع وتقديمه على أنه مرحلة وستنتهي، أو تأثر طارئ بالعالم هو نوع من الخداع، ومن أحاديث المصدومين بهذه التحولات، وما يحتاجه السعوديون الآن هو أن تدرك كل المؤسسات المعنية بإدارة حياتهم أنها وزارات لهم، وليست للمحتسبين والمنكرين، وأن المرحلة التي وصل إليها المجتمع إنما هي بداية انطلاق، وليست موقفا يمكن التراجع عنه، فكل السبل مفتوحة باتجاه المستقبل فقط. يحيى الأمير نقلا عن الوطن السعودية