• هناك من لا يعترف في الأصل بوجود أزمة مع الآخر، وبالتالي فهو يعمل بغير وعي منه على تعميق هذه الأزمة في وجودها واتساعها, ولعل هذا الموقف هو مظهر من مظاهر أزمة أكبر وأخطر، وهي أزمة التعالي على الواقع والتفكير في أطر الفرضيات والقناعات والأفكار التي لا تتحرك في دائرة الواقع. فالأزمة مع الآخر موجودة، بل إنها تتسع، وصارت تنتج لنا أشكالا وصورا متعددة من الآخر, فكل شيء نناقشه ونتحدث عنه اليوم هو بصيغة الآخر, فالمجتمع في نظر البعض صار مجموعة من الآخرين الغرباء عن بعضهم، ولذلك صارت تتقلص مساحة المشترك لمصلحة المختلف, فلم تعد هناك تلك المساحة الحرة والمفتوحة التي يتحرك فيها الإنسان بعنوان إنسانيته، وينفتح بها على المجتمع كله. فبسبب هذه الأزمة وثقلها صار المجتمع يتحرك ببطء؛ لأن كثرة الآخرين في الداخل والخارج صارت تستنزف جهودنا وطاقاتنا, فلم تبقَ عندنا طاقة نواجه بها مشكلاتنا ونستقوي بها على تحدياتنا. كل شيء ألبسناه لباس الآخر، وصرنا نتعامل مع هذا الآخر على أساس الغيرية والاختلاف والتزاحم والحذر وعدم الثقة, فالمناطقية والقبلية والمذهبية صارت كلها بفضل هذا اللباس مصادر للتوتر في المجتمع. فالمذهبية في لباس الآخر جرتنا إلى فتن ونزاعات لا يمكن فهمها وتبريرها في إطار الاختلاف المذهبي فقط, فالاختلاف المذهبي بذاته وطبيعته لا ينتج طائفية، ولكن ثقافة الآخر هي التي تتكفل بإنتاج وصناعة الطوائف، وهذه الطوائف بدورها تتغذى على ما هو موجود في كل مجتمع من تنوع مذهبي وتعدد فكري ومناطقي وقبلي. فحتى موضوع المرأة والمناداة بحقوقها صرنا نناقشه على أنه موضوع يخص المرأة على أنها إنسان آخر وليس هو موضوع يهم المجتمع كله, فالمرأة في نظر البعض هي إنسان آخر يريد لنفسه حقوقا تُزاحم حقوق الرجل، وبالتالي هل ننتظر من الرجل ألا يدافع عن نفسه، وأن يتنازل بسهولة ويستجيب لحقوق المرأة ومتطلباتها, فطالما بقيت المرأة على أنها آخر ستبقى مجتمعاتنا ذكورية، وسنبقى نتهم كل من يطالب بالإنصاف للمرأة على أنه من دعاة التغريب. فالأزمة مع الآخر ما كان بمقدورها أن تصل إلى هذا الحجم وإلى هذا المستوى الذي جعلها تشكل كل علاقاتنا مع بعضنا ومع الآخرين لولا أنها تستند إلى أسس معرفية قوية تغذيها ومشاعر وجدانية تحافظ عليها. فثقافة الآخر تكفلت بإنتاجها معارف وأحاسيس، وتصحيح هذه الثقافة يستوجب العودة إلى هذه المعارف والأحاسيس التي بنيت عليها هذه الثقافة من أجل مراجعتها ونقدها وتهذيبها, في النقاط التالية وقفة عابرة لبعض هذه المعارف التي أنتجت لنا ثقافة شوهت نظرتنا للآخر. 1-هناك اعتقاد مع الأسف بأن قيمة الإنسان ليست قيمة ذاتية، وإنما تحدد قيمته على ضوء ما يأخذ به من أفكار وقناعات ومعتقدات، وهذا يجعل من قيمة الإنسان متأرجحة ومتفاوتة تبعا لما نعطيه نحن من قيمة لهذه الأفكار والمعتقدات. فعندما أجرد الإنسان من قيمته الذاتية يصبح الاختلاف الفكري أو المذهبي مبررا للاعتداء على هذا الآخر واستلاب حقوقه وانتهاك حرمته. فالتمسك والحرص على قيمة الإنسان في ذاته تمنع من إنتاج الآخر لمجرد وجود الاختلاف في الفكر أو الدين أو المذهب أو الجنس أو القبيلة أو المنطقة. فالمفكر عندما يتحرك في دائرة القيمة الذاتية للإنسان ينتج لنا فكرا إنسانيا وليس عنصريا. والفقيه عندما يأخذ بمبدأ قيمة الإنسان الذاتية، فإنه سينتج لنا أحكاما فقهية ببعدها الإنساني. فالفقيه الذي يتحرك ويجتهد خارج دائرة القيمة الذاتية للإنسان نجده لا يتأنى أو لا يتورع في إطلاق الأحكام الإقصائية والتعسفية على الآخرين. فتكفير الإنسان وإخراجه من الملة والدعوة إلى تشويه سمعته وانتهاك حرمته وربما الفتوى بقتله لمجرد وجود اختلاف في الرأي والاجتهاد يعبر بوضوح عن عدم إيماننا بقيمة الإنسان الذاتية. وحتى الإدارة كمفهوم عندما نبحث لماذا تحولت عندنا إلى سلطنة وسيطرة واستبداد، نجد أن السبب هو في أننا قد شكلنا هذا المفهوم في أذهاننا على أن الإنسان ليست له قيمة في ذاته. في المقابل نجد الشعوب والأمم المتحضرة ترتقي بإداراتها لنفسها؛ لأنها كل يوم تكتشف أن للإنسان قيمة أعلى مما كانت تتصوره وتعتقد به. 2- إن المفهوم الخاطئ للحق والباطل قلص كثيرا من المساحة المطلوبة للأشياء التي يمكن الاختلاف عليها. فالوضع الطبيعي الإنساني هو أن تكون ساحة اليقينيات والأمور المتفق عليها هي ساحة صغيرة ومحدودة، وتتعلق بأمهات المسائل، وتترك الساحة الأكبر للتنوع والاختلاف في الآراء والاجتهادات. فتحول الأمور كلها إلى حق ينتج لنا إنسانا ب(أنا) متضخمة ومتورمة، في مقابل آخر ضئيل وصغير ومحدود جدا. فسبب أزمتنا مع الآخر هو وجود هذه (الأنا) المتورمة بوهم امتلاك الحقيقة بأكملها, فالآخر هو باطل بالمطلق، وهذا الآخر الباطل لا يصدر منه إلا باطل, فكل ما يصدر من هذا الباطل إما فكرا منحرفا أو سلوكا معوجا أو مؤامرة خبيثة أو عملا دعائيا أو ممارسة غير صالحة. إننا بهذا المفهوم الخاطئ للحق والباطل صرنا لا ننتظر الخير إلا منا أو من مثلنا؛ لأن الآخرين لا ينتجون إلا باطلا. فليس غريبا إذا عندما نسمع البعض وهو يشكك في نوايا هؤلاء الأثرياء جدا في أمريكا، الذين ألزموا أنفسهم بالتبرع بنصف أموالهم وثرواتهم على الأقل لخدمة مجتمعهم. فكيف لنا أن نفهم هذا الفعل العظيم، وأن نقر بأن دوافعه إنسانية, فالباطل يبقى باطلا، ولا ينتج إلا باطلا, فهؤلاء في نظرنا أشخاص لا يريدون الخير والنفع لمجتمعاتهم، بل يطلبون الشهرة والدعاية لأنفسهم، وبالتالي فأعمالهم هذه لا قيمة لها ولا بركة فيها ولا ثواب لهم عليها. إننا ننكر على هؤلاء أنهم أناس مثلهم مثل كل الناس عندهم الفطرة الإنسانية المحبة للخير، وأن ما يقومون به من إعلان عن تبرعهم هو تصرف ينسجم أولا مع مبدأ الشفافية التي يأخذون بها في حياتهم, فإعلانهم هذا هو في الحقيقة دعوة للمجتمع بأن يعرف عن هذا الموضوع، وأن يبقى مُتابعا ومُراقبا له حفظا له ومنعا من تسرب الفساد إليه, وثانيا هو الرغبة في شكر المجتمع والتعبير بوضوح أن على الإنسان أن يقر ويعترف بفضل المجتمع عليه في نجاحه، وهذا الشيء مع الأسف غير موجود عند أغنيائنا وأصحاب الثروات عندنا, فأكثرهم ينسب كل الفضل له ولقدراته في نجاح في عالم المال والتجارة، وبالتالي فلا حق للمجتمع عليه وليس لأحد الحق في مطالبته بالتبرع، إلا إذا كان بالتوسل والترجي وحتى التذلل إليه، وهذا هو حال جمعياتنا ومؤسساتنا الخيرية، وهي تعاني في استجدائها للحصول على التبرعات. 3- جزء كبير من شعور الإنسان وأحاسيسه تشكله البيئة التي يعيشها هذا الإنسان, فلو تفحصنا البيئة التي يعيشها الإنسان العربي والمسلم عموما، فسنجدها بيئة تستحقر الإنسان وتنتهك وجوده. فالإنسان العربي والمسلم يشعر بأنه إنسان مستباح من قبل الآخرين, فهو لا حول ولا قوة له وكل القوى تريد الاستحواذ عليه, فحتى الدين الذي جاء ليكرم الإنسان، ويهدف إلى الارتقاء به، ويحافظ على إنسانيته وحريته صار أداة عند البعض لاستعباده واستغلاله وسلب إرادته. فمثل هذه البيئة التي يشعر بها الإنسان إنه ضحية للآخرين لا ينتظر منه أن يكون منفتحا على الآخرين؛ لأن الآخر عنده هو ذلك القوي أو المتنفذ أو المتربص الذي يريد أن يستحوذ عليه، وأن يحقق مصالحه على حسابه هو. فإذا أردنا فعلا أن نفعل المواطنة والانتماء للمجتمع في مجتمعاتنا، فعلينا أولا أن نؤسس لبيئة اجتماعية يحكمها العدل والمساواة في الفرص والنظام في الإدارة, فالإنسان المعتدى عليه في حقوقه ومشاعره، وهو يشعر بالعجز في رد هذا الاعتداء لا ينتظر منه أن ينفتح على مجتمعه ووطنه والآخرين. أخيرا نقول إن أزمتنا مع الآخر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ستبقى، وإننا سننتج آخرين جددا أو نعيد القديم بأشكال جديدة ما دام هناك إصرار على البقاء على المباني المعرفية نفسها في إنتاج ثقافتنا, وكلما تركت هذه الأزمة مع الآخر من غير معالجة جذرية وحقيقية سنبقى في توتر اجتماعي، وسنكون غير قادرين على بناء المجتمع القادر على تحقيق ما يروم ونسعى إليه من أهداف تنموية. نقلا عن الاقتصادية