الإنسان لا يستطيع أن يستفيد من علمه حق الاستفادة وهو يعيش الأغلال والأحقاد .. فكل القيم الفاضلة والنبيلة ، لايمكن أن تتحقق في واقع الإنسان الفرد والمجتمع ، بدون تغيير الذات وتنقيتها من شوائب الأثرة والأنانية ، وضبطها عن نزعات التسلط والطغيان من البدهيات العلمية والتي لا تثير نقاشا وجدالا، هي أن العقل البشري متماثل بين البشر .. فالباري عز وجل خلق عقولنا جميعا بطريقة واحدة ، وأودع فيها إمكانات وقدرات واحدة .. ولكن وبفعل الثقافة وسبل التنشئة والأعراف والتقاليد والبيئة الاجتماعية التي يعيشها الإنسان أضحى بفعل هذه العوامل ، لكل عقل بشري إطار يؤطره ومنظار ينظر من خلاله إلى الكون وشؤون الحياة المختلفة .. لهذا نجد أن بعض القضايا والأمور لدى إنسان أنها عين الصواب ، وهي ضرورة الحياة التي لا غنى عنها ، ويقابله إنسان آخر يرى عكس هذه الرؤية .. إن هذا الاختلاف والتباين ، لا ينمان عن اختلاف في العقل ، وإنما يكشفان عن اختلاف وتباين في العقلية .. وهذه العقلية هي نتاج كل العوامل والشروط الثقافية والاجتماعية التي يخضع إليها الإنسان أو يعيشها .. لأن الأنظمة الاجتماعية والمعايير القيمية الحياتية ، تتبدل أو تتراجع أو تتقدم تبعا لتغير المجتمع في أنماط حياته وسلوكه العام .. فالمشاكل والتحولات الاجتماعية التي يعيشها الإنسان الفرد أو الجماعة ، هي مشاكل من صنع المجتمع ذاته وطبيعة الثقافة السائدة فيه .. فإذا كانت الثقافة السائدة ترذل قيمة العمل ، ولا تحترم الجهد العملي الذي يبذله الإنسان في سبيل تحصيل رزقه أو تطوير أحواله ، فإن هذه الثقافة ستقود إلى وقائع اجتماعية وأنماط حياة ومعايير عامة للتفضيل متناغمة وهذه النوعية من الثقافة.. وهكذا نستطيع القول : إن المشاكل الاجتماعية ليست مشاكل عقلية ، وإنما هي مشاكل نتاج خيارات المجتمع الثقافية والسلوكية .. ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر الراحل (على الوردي) في كتابه (خوارق اللاشعور) بقوله : بأن أصحاب المنطق القديم يعتبرون المشاكل الاجتماعية هي مشاكل عقلية من الممكن حلها عن طريق الوعظ والإرشاد، ولا دخل للظروف الاجتماعية فيها .. وكما يقولون إذا أصلحت العقول استقامت الأمور ! في حين أن العقل هو نتاج اجتماعي ومن صنع المجتمع والثقافة السائدة فيه ، حيث تنمو فيه قدرات الإنسان الذهنية والمعرفية .. فإذا وجدنا أفرادا يمارسون عادات وتقاليد غير صحيحة فلا يكفي لإصلاحهم أن ندعوهم إلى التفكير السليم ، لأنهم يعتقدون بأن ما اعتادوا عليه هو الصحيح وما يعتقد به الآخرون فهو خطأ .. ولذلك يميلون إلى الاعتداء على من يخالفهم في رأي أو عقيدة ، وهذا هو شكل من أشكال التعصب العقلاني .. والذي يزيد هذه الحالة انتشارا وشيوعا في مجتمعاتنا ، هو نزعة الإنسان لتعميم قناعاته واستخدامه في بعض الأحيان وسائل قسرية لتعميم أفكاره وقناعاته .. ما يفضي إلى صراعات وصدامات من جراء هذه النزعة والسعي الحثيث لخلق التماثل والتطابق بين قناعات الآخرين وقناعات الممارس لهذه النزعة .. ولعل هذا هو الذي يفسر لنا اختلاف الأولويات والضروريات لدى الناس ، حتى لو عاشوا في بيئة اجتماعية وثقافية واحدة .. فما هو ضروري لدي ، ليس بالضرورة هو الضروري لدى الآخر .. وما يستحق التضحية لدي ، ليس بالضرورة هو الذي يستحق التضحية لدى الآخر .. إن هذا الاختلاف والتباين ، ليسا وليد العقل الذي أودعه الباري عز وجل فينا ، وإنما هما نتاج نوعية الثقافة وطبيعة الأعراف والتقاليد السائدة في المجتمع .. لهذا فإن عملية التغيير والإصلاح ، لا تتم إلا بإصلاح الثقافة التي تحدد للإنسان منظارا ينظر من خلاله لشؤون حياته المختلفة .. وإن تغيير هذه الثقافة ، لا يتم بالوعظ والإرشاد المجرد ، وإنما يتطلب تغيير وقائع الحياة التي تعزز هذه القناعة لدى الإنسان .. ولعل هذا التغيير الذي يحدثه الإنسان في ثقافته ومنظومته القيمية كمدخل لإحداث التغيير في الحياة الاجتماعية والسياسية ، هو ما تشير إليه الآية القرآنية الكريمة (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فلكل إنسان حقيقته الخاصة ، واستخدام القسر والقوة العارية لتعميم هذه الحقيقة ، لا يفضي إلا إلى تشبث الناس بحقائقهم الخاصة ، وضمور النزعة التواصلية ، التي تبحث عن المساحات المشتركة وتثري واقع الحياة من روافد متعددة ومتنوعة .. وبفعل هذه الحالة تبرز في حياة الفرد والمجتمع حالة المفارقات على مستوى القيم والسلوك .. فالقيم العامة تدعو إلى الجد والاجتهاد والمثابرة ، ولكن واقع الإنسان يعيش الدعة والكسل .. والقيم تدعو إلى الترفع عن الأصول الترابية من عائلية وعشائرية وقبلية والواقع الاجتماعي يندفع بشكل أو بآخر نحو هذه الأصول والانتماءات .. وتستمر هذه المفارقات ، وتخترق كل جوانب الحياة الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية .. فباسم الوحدة نمارس وننتج القيم المضادة لها .. وباسم العدالة نؤسس للظلم المستديم في دوائر الحياة المختلفة .. وباسم قوامة الرجل على المرأة ، يمارس أقسى أنواع العسف والظلم بحق المرأة .. وهكذا دواليك .. وستستمر هذه المفارقات في حياتنا العامة ، ما دام التغيير الذاتي لم يتحقق لدى الإنسان .. من هنا فإن حجر الأساس في مشروع تحقيق التقدم النوعي في أي مجتمع ، حينما تتسع دائرة الناس القادرين على تغيير ذواتهم وصياغتها وفق قيم العلم والعمل والحرية والعدالة .. ودون ذلك ستبقى كل هذه التطلعات بعيدة المنال وصعبة التحقيق .. والسبب في ذلك هو أن الإنسان لا يستطيع أن يمارس حريته ويحافظ عليها ، وهو خاضع لحاجاته وأهوائه ، كما أن الإنسان لا يستطيع أن يستفيد من علمه حق الاستفادة وهو يعيش الأغلال والأحقاد .. فكل القيم الفاضلة والنبيلة ، لايمكن أن تتحقق في واقع الإنسان الفرد والمجتمع ، بدون تغيير الذات وتنقيتها من شوائب الأثرة والأنانية ، وضبطها عن نزعات التسلط والطغيان .. وإن التغيير الذاتي هو الذي ينهي المفارقة بين القبول والفعل ، وبحيث تبقى أفعالنا منسجمة مع أقوالنا ، وسلوكنا الخاص والعام متناغما مع قيمنا العامة .. وبه تنتهي الثنائية والازدواجية بين الحياة الحقيقية التي يمارس الإنسان فيها ما يحلو له ، وبين الحياة الظاهرية ، التي يراعي فيها الإنسان اللياقة والآداب العامة .. بحيث تصبح حياتنا سوية – مستقيمة ، بدون ازدواجية وثنائية وانفصام .. كما أن التغيير الذاتي هو الذي يوفر القاعدة النفسية والعقلية ، لكي يمارس الإنسان دوره التاريخي في البناء والتنمية والعمران ..