د.هاشم عبد الله الصالح - الاقتصادية السعودية بالرغم من الواقع المتخلف الذي تعيشه المجتمعات الإسلامية في بلدانها, فهي الأكثر فقرا وتخلفا وانغلاقا وانسدادا في أفقها المستقبلي، إلا أن الإسلام كدين هو الأسرع انتشارا وقبولا عند الناس في العالم. صحيح أنه لا تخلو دولة أوروبية أو غربية وحتى أي دولة في أمريكا الجنوبية من وجود جالية إسلامية كبيرة ومؤثرة في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي حتى إن البعض من المفكرين الإسلاميين وغير الإسلاميين صار يراهن على دور مؤثر وفاعل لهذه الجاليات على حساب المراكز الإسلامية في تفعيل مفهوم الإصلاح الديني للخروج بفهم جديد للإسلام يستطيع أن يعيد للمسلمين حيويتهم ومشاركتهم ودورهم في بناء الحضارة الإنسانية، إلا أن هذه الجاليات تواجه تحديات كبيرة في الوقت الحاضر. فبعض الفاعلين في الساحة الإسلامية في المهجر يؤمنون ويفصحون عن هذا الإيمان في خطاباتهم وكتاباتهم بأن الأقليات الإسلامية التي تعيش على أطراف العالم الإسلامي هي التي سيكون بيدها زمام المبادرة في تطوير العالم الإسلامي في الداخل, ويعزون السبب في ذلك إلى أن ثقافة المجتمعات الإسلامية باتت اليوم أقوى من قدرة المجتمعات الإسلامية نفسها على التمرد عليها والخروج منها. فهذه المجتمعات تعيش اليوم أزمة انسداد ثقافي محكم ولا سبيل للخروج من هذا الانسداد إلا بتفكيك هذه الثقافة التي ترسخت في نفوسنا وتوارثناها جيلا بعد جيل وللأقليات الإسلامية سيكون لها دور مؤثر في هذا المجال. ولكن التحدي الكبير الذي تواجهه هذه الأقليات الإسلامية في الخارج هو كيف لها أن تعيش دينها خارج إطار ثقافتها الأصلية, فالانتقال بثقافة مترهلة ومتخلفة وتنطوي على قيم وأخلاق تصطدم مع الحياة يجعلها تكرر من حياة مجتمعاتها الأصلية, بل إنها قد تتحول إلى جسور لعبور الأزمة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية إلى الخارج، وهذا ما بدأ يقلق المجتمعات الغربية التي تحتضن الجاليات الإسلامية. ففي كل يوم نسمع عن أزمة هنا وهناك وبالأخص في أوروبا تتعلق بوضع المسلمين وحياتهم, فمستشارة ألمانيا تشتكي من انغلاق المسلمين وعدم انفتاحهم وتفاعلهم مع المجتمع الألماني, وسويسرا تتخوف من المآذن, وفرنسا تحظر النقاب وترى فيه تهديدا لأسس الثقافة العلمانية في فرنسا, وكل دول أوروبا صارت تنظر بعين الريبة للتعليم الديني التقليدي، لأن هذا النوع من التعليم ثبت أنه ينتج نفوسا محتقنة وشخصيات متزمتة وأخلاقا غير متسامحة وممارسات متشددة ومتطرفة تجعل من الإنسان أكثر استعدادا وقبولا لممارسة العنف. حتى إن النخب المثقفة في المجتمعات الغربية والتي يهمها أن تبقى مجتمعاتها متمسكة بثقافاتها وتراثها العقلاني صارت تحمل الأقليات الإسلامية وما جاءت به من ممارسات خاطئة مسؤولية عودة الحياة للجماعات الأصولية المحلية, فهناك اليوم قبول اجتماعي للجماعات الأصولية والفكر العنصري في الدول الغربية، وقد ترجم هذا القبول إلى نجاحات انتخابية وحضور ملموس في المشهد السياسي، وكل هذا النجاح لم يكن بمقدوره أن يتحقق لولا وجود مخاوف حقيقية من ثقافة إسلامية وافدة تشكل تهديدا لاستقرار مجتمعاتهم. فهناك فعلا قلق حقيقي على ما سيؤول إليه حال الأقليات الإسلامية في الغرب, فتحول هذه الأقليات إلى مشكلة في الدول التي تحتضنها سترتد آثاره السلبية على مستقبل الإسلام ونظرة شعوب هذه الدول وغيرها للإسلام كدين، وسيكون لها أيضا انعكاسات سلبية على الواقع الإسلامي في داخل الحاضرة الإسلامية. فالإسلام بطبيعته هو دعوة عالمية ورسالة لكل الناس, وعندما يحمل المسلمون ثقافة تصطدم مع طبيعة هذه الرسالة المنفتحة على الناس والعالم, فإننا لا نستطيع مهما عملنا واجتهدنا وبذلنا من موارد للدعوة إلى الإسلام أن نكسب عقول وقلوب الناس لهذا الدين, فالناس يختبرون ثقافتنا قبل أن يختبروا ديننا، ويتعرفون على أخلاقنا وطبيعة نفوسنا قبل أن يهتموا بما يدعو إليه هذا الدين, فهم، ولهم الحق في ذلك، لا يريدون صلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا يريدون آخرة بخراب الدنيا، ولا تستسيغ نفوسهم أن يتظاهروا بالعزة لأنفسهم، وهم يعيشون الحقارة في واقعهم. هذا الخوف والقلق المشروع على مستقبل الإسلام خارج العالم الإسلامي وبالخصوص في العالم الغربي عبر عنه بوضوح أحد المهتمين بالشأن الإسلامي في بريطانيا, لقد قال هذا الإنسان وهو المعاصر لتطور الأقليات الإسلامية والمطلع على أحوال المسلمين في أوروبا عموما إنه على المسلمين إذا ما أرادوا بقاء الإسلام في أوروبا ألا يخلطوا بين الدين وثقافة المجتمعات التي وفدوا منها, ليس هناك مشكلة في التمسك بالدين، ولكن لا بد من احترام ثقافة المجتمعات التي يعيشون في أحضانها, فالخطر كل الخطر أن ينتقل المسلم ليعيش تدينه وحياته في إطار ثقافة قد ثبت في الواقع أنها هي المسؤولة عن هذا التدين المشوه، وهذا الواقع المتخلف والمستقبل المسدود. فهذا الداعية البريطاني يحذر المسلمين في الغرب من أن يختلط دينهم بثقافتهم فيفوتوا على أنفسهم وعلى مجتمعاتهم الأصلية فرصة ثمينة للخروج من تخلفهم واللحاق بركب الحضارة. بالتأكيد أن ما يدعو إليه هذا الداعية الإسلامي بعدم الخلط بين الدين والثقافة هو دعوة إلى الالتفات إلى ما تحمله ثقافتنا من قيم سلبية، ولا يعني أبدا أنه لا توجد هناك قيم إيجابية من الضروري الاحتفاظ بها وإبرازها وإظهارها بالشكل الذي يجعلها مؤثرة في حياتنا, فالجانب السلبي في ثقافتنا هو ما يجب أن نتخلص منه لكي ننقي ثقافتنا من وجوده الضار. وهناك كثير من هذه الجوانب السلبية التي باتت تعطل من حركة الإسلام في حياة الناس ليس فقط في إطار الجاليات والأقليات الإسلامية، وإنما باتت معيقة لحركة المسلمين أنفسهم في مجتمعاتهم الأصلية، نذكر بعض هذه الجوانب الثقافية السلبية وباختصار: 1- النظرة الدونية للمرأة، لا يختلف أحد بأن الإسلام كرم المرأة وحفظ لها حقوقها الإنسانية بالكامل، ولكن هل ثقافتنا الإسلامية حفظت للمرأة هذه الحقوق وهذه الكرامة؟ فثقافة المجتمعات الإسلامية الذكورية أنتجت لنا تدينا يحط من مكانة المرأة, فصارت المرأة عندنا أقل رتبة في الإنسانية من الرجل، وصار ينظر إليها على أنها مخلوق فتنة وإغواء يستخدمه الشيطان للإيقاع بالرجل، كما حدث لأبونا آدم، بل هناك من يعتقد أن قيمة المرأة مرهون بقيمة ما تعطيه من متعة وطاعة وخضوع واستسلام للرجل, فهي لا تستحق أن ينفق عليها الرجل عند مرضها أو عجزها، لأنها لم تعد تمارس وظيفتها في خدمة الرجل وتلبية حاجاته الجسدية، فهكذا نظرة فيها من التحقير والدونية للمرأة لا تجعل من المسلم في الغرب قادرا على أن يستميل قلوب الناس لهذا الدين, لا بل إن من حق الشعوب والمجتمعات الغربية أن تخاف على نفسها من وجود هذه الثقافة على أرضها وفي مجتمعها. فالأقليات الإسلامية مدعوة فعلا لئن تستنطق دينها وتعاليم قرآنها بخصوص المرأة وحقوقها، وليس ثقافتها, فهناك المرأة مخلوق كامل الإنسانية، وهنا في الثقافة لا تحظى المرأة بتلك المكانة، بل هي مخلوق أقرب للشيطان منه للإنسان. 2- تغييب الجانب الإنساني في الدين: يستغرب البعض كيف إن الإسلام وهو دين الرحمة أن يكون له أتباع ومعتنقون يمارسون هذا العنف والقتل في أبشع صوره لمجرد وجود اختلاف مذهبي أو طائفي أو حتى ديني, فثقافتنا أنستنا حقيقة مهمة، وهي أن الدين جاء ليحرر ويرشد فطرتنا الإنسانية المنشدة إلى الله لا ليقمعها أو يميتها في داخل نفوسنا. فالتزمت والتشدد والانغلاق وعدم التسامح والنظرة إلى الآخرين بمنظار التكفير والوعيد بالنار واتهامهم بالانحراف عن الحق كلها مظاهر تكشف عن غياب خطير للبعد الإنساني في ثقافتنا الدينية. فالمسلم في الغرب هو أكثر حاجة إلى إظهار الوجه الإنساني في تدينه، لأن هذه المجتمعات تؤمن بأن المجتمع الإنساني يتقدم ويتحضر بمقدار ما يحافظ عليه من علاقات على أسس إنسانية. 3- القبول بالتنوع والاختلاف: من أكثر المشكلات العويصة التي قد ابتلينا بها نحن المجتمعات الإسلامية هي مسألة القبول بالآخر, فنحن نرى أن الاختلاف فتنة، وأن الاجتماع على رأي واحد هو فضيلة ما بعدها فضيلة حتى ولو كان بالإكراه والتهديد, والخطر كل الخطر أن ينقل المسلم المغترب هذه الثقافة إلى مجتمعه الجديد. فالثقافة الإقصائية هي أكبر ما يهدد سلامة المجتمع واستقراره, فالمسلم المغترب يجب أن يعيش ولادة جديدة ليخرج من ثقافته الملبدة بغيوم الطائفية والمناطقية والعشائرية التي تجعله لا ينظر إلى الآخر المختلف والمغاير له مذهبيا أو فكريا إلا من خلال الصراع والمواجهة معه. إن الأقليات الإسلامية في الغرب بحاجة إلى وعي إسلامي موحد يجعل من الجميع مشغولا بالمشترك ومهتما بالبناء عليه أكثر من الاستغراق في بحث الخلافات والتفسيرات التي هي ربما جاءت كنتيجة طبيعية لسعة الإسلام وعمقه وشموليته وحركته الفاعلة في الحياة. أخيرا، فإن الثقافة لها دور محوري في تشكيل الإنسان وصياغة شخصيته، وبالتالي عندما يختلط الدين بثقافة هابطة يهبط الدين بهبوط هذه الثقافة. فتوجيه الدعوة للأقليات في أوروبا بضرورة عدم خلط الدين بالثقافة هو في الحقيقة دعوة هذه الأقليات إلى مراجعة متأنية إلى ما عندها من ثقافة جاءت بها من مجتمعاتها الأصلية رحمة بدينها وبنفسها. فالمجتمعات غير الإسلامية لن تتعرف على الإسلام إلا من خلال المسلمين، والأقليات الإسلامية هي اليوم الأقرب لهذه الشعوب، وبالتالي عليها مسؤولية أن تحسن من عرضها للإسلام، ولن يتحقق هذا إلا بتوخي الحذر من خلط الدين بثقافة هي السبب في أزمة المجتمعات الإسلامية