في مكان محاط بالسرية في باريس، يعمل الباحثون في معهد الأبحاث والتنسيق الصوتي والموسيقي «إيركام» (IRCAM) على تشريح الصوت بواسطة معدات متطورة، يستفيد منها المؤلفون الموسيقيون وأصحاب الإعلانات الترويجية. ويمكن هؤلاء الباحثين أن يُنتجوا أصواتاً تحاكي صوت أوبرا تعزفها فرقة، أو صوت سيارة من طراز رينو مزوّدة محركاً هادئاً جداً، أو أن يجعلوا الممثل جيرار دوبارديو يتكلم الإنكليزية، كل ذلك بفضل المعدات المتطورة التي يتمتعون بها في استوديواتهم تحت الأرض. هنا تتدلى الميكروفونات من السقف، وتتشابك الأسلاك، وتقع أجهزة الكومبيوتر وسط هذه الورشة الصوتية القائمة تحت الأرض على أسطوانات هيدروليكية، في أفضل الظروف الممكنة لتحقيق عزل تام للصوت. أنشئ معهد الأبحاث والتنسيق الصوتي والموسيقي (ايركام) في السبعينات من القرن الماضي، على يد بيار بولي، وكان قائماً تحت الأرض، قبل أن يرتفع البرج الذي صممه المعماري الإيطالي رينزو بيانو في التسعينات. وتتسع قاعة «أسبرو» ذات التصميم الصوتي المتحرك، لثلاثمئة عازف، وهي تتيح الحصول على صوت يحاكي الأصوات التي تنبعث من الكاتدرائيات مع كثير من الصدى، أو الحصول على صوت «جاف» من دون ترجيع. ويمكن أن تستخدم «اسبرو» قاعةً للحفلات الموسيقية، واستوديو للتسجيل، ومختبراً للتجارب الصوتية. إلا أن الأغرب بين مرافق هذه المؤسسة هو «الغرفة الصماء»، وهي ذات مدخل ضيق مغطاة بالعوازل الصوتية، فتتيح الانصات لسكون قد يؤدي إلى الشعور بالدوار، إذ أن سماع الأصوات من بين العوامل التي تحقق توازن الإنسان. ويتيح غياب الترجيع الصوتي القدرة على قياس دقيق للإشعاع الصوتي الناجم عن مصدر صوتي، كصوت الإنسان أو نغمة موسيقية. وهي قياسات لا بد منها لتعديل الأصوات وتركيب أصوات جديدة. ويعمل في ايركام نحو 90 باحثاً، يفعلون بالأصوات فعل السحر، إذ تتيح لهم معداتهم تحويل صوت ذكر إلى صوت أنثى، وتحويل صوت شاب إلى صوت عجوز، واستخدام صوت لشخصية تاريخية لتوليد صوت يحاكي صوتها وهي تلقي خطاباً جديداً، ويمكن هذه التقنية العالية أيضاً أن تعيد إنتاج صوت الجنرال الفرنسي بيتان... وهذه التقنيات ذات فوائد لقطاع السينما ولألعاب الفيديو. فمخرج الفيلم الفرنسي البريطاني «فاتيل» رولاند جوفي الذي يروي آخر أيام الطباخ الفرنسي فرنسوا فاتيل الذي عمل في خدمة أحد ملوك فرنسا، استخدم هذه التقنيات معالجاً بها صوت الممثل جيرار دوبارديو ليصبح ذا لكنة بريطانية من دون المساس بنبرته المميزة. ويقول فرانك مادلينير إن «كل المجالات الفنية من الرقص والأوبرا والمسرح والسينما إلى ألعاب الفيديو أصبحت معنية» بهذه التقنيات. أما شركات اختيار الممثلين والمذيعين، فتتيح لهم هذه التقنيات اختيار المرشح ذي الصوت الأكثر تماثلاً مع صوت شخصية ما. وبدأ قسم التصميم الصوتي في «ايركام» يكتسب أهمية متزايدة مع تزايد الاعتماد على الأصوات المسجلة في مراكز الصرف الآلي ومحطات القطار. وعقدت «ايركام» اتفاقات مع شركة «رينو» للسيارات، ومع مصلحة سكك الحديد الفرنسية. ويمكن الجمهور زيارة هذه المملكة الصوتية والتعرف إلى خفاياها، من خلال زيارات منظمة، أو حضور الأمسيات الموسيقية التي ينظمها المعهد. ويقام في فرنسا في 29 أيار (مايو) المقبل و30 منه مهرجان «مانيفاتس»، ويشارك فيه المعهد. وسيكون العرض الأبرز أوبرا «اليادوس» (الحلفاء)، التي وضع موسيقاها الأرجنتيني سيباستيان ريفاس تروي لقاء في 1999 جمع مارغريت ثاتشر مع الديكتاتور التشيلي الراحل أوغستو بينوشيه، اللذين تحالفا في حرب جزر فوكلاند ضد الأرجنتين.