رافقتُ المغامرة الموسيقية لأوبريت «أجمل من كل الجناّت» منذ تأليف هبة القواس أول نوتة منها، مروراً بالتمرينات في روما في أوديتوريوم «باركو ديللا موزيكا» العريق، ثم في استوديوات مدينة الإعلام في القاهرة، وصولاً الى الحفلة النهائية في البحرين. بين أنامل العازفين وعصا المايسترو، فضول الاكتشاف ولغز العارف الذي يسبر أغوار المؤلف. هي العجلة تدور بين الثواني والصمت، بين تزاوج الآلات وانصهار النغمات حتى الولادة. كادت ان تصل، ها هي! لكن التكرار والمحاولات أثناء التمارين لها نكهة اخرى. الأنفاس تتلاحق، تتزاحم، تسترق السمع وتتلاحم ذائبة في النبض ذاته، وتتقولب في الشرنقة قبل الانطلاق. ليست الولادة بهذا اليسر، ولكنها تقترب ولا تقفل الدائرة على نفسها. هل للموسيقى لحظات تختلف عن الحياة؟ أم ان الحياة تخلق ذاتها من الموسيقى؟ يحاول المؤلف الموسيقي أن يقبض على الحياة بإيقاعات الكون كلها، ان يقبض على جزئيات الحياة من خلال الأصوات البشرية النابضة والآلات التي يطوّعها في خدمة الطنين الذي يضجّ في داخله. يمسك الهواء الذي يوشوش من حوله، اما الحروف فهي ملائكة وصْل بين التجريد والتجسيد. تدريبات جانبية، صمت، ثم تنقطع الأنفاس... الأوتار مشدودة، دقَّت ساعة الصفر وها إن الأوركسترا تفك ألغاز موسيقى القواس، وتتنشق عبير الأنغام الآتية من ماض سحيق ما زال يبحث عن جذوره. وها هي ابنة الشرق تتلهف لنشر موسيقاها في أرجاء العالم الذي يتلقفها بفضول. في القاهرة تحول الاستوديو في مدينة الإعلام المصرية الى خليَّة نحل تجريبية هي سابقة من نوعها، من حيث تتشابك أصوات الكورس المصري شبّاناً وشابات وتمتزج التقنية الغربية بأسلوب غناء الأوبرا العربية، الذي شقَّت طريقها فيه رائدته هبة القواس منذ بداية التسعينات. وهي اليوم تقود الكورس نافخة الروح في الحروف العربية، تدرّب الأصوات وتغني معها، منضمة الى فريق الشبان تارةً والشابّات طوراً، متنقّلةً بين مختلف الطبقات الصوتية من سوبرانو وألتو وتينور وباص. هي المرة الأولى التي ألّفت فيها هبة القواس مشهداً مسرحياً سيمفونياً، شكّل بداية تنفيذ حلمها بتحقيق أوبرا عربية متكاملة نصاً وموسيقى وأداء. كما هي الحلقة الأولى من حلقات تسعى الى تجسيدها على مساحة العالم العربي، حيث ستبحث لاحقاً عن أصوات أوبرالية شابة تكون نواة لأول أوبرا عربية، وليس أوبرا باللغة العربية كالمحاولات التي حصلت في بعض بقاع العالم العربي. لكن محيطاً واحداً يضم الجميع، محيطاً كونياً واحداً بتعاريجه الغنية والكثيفة وشطآنه الزاهية والنائية والغريبة... ما من شرق، ما من غرب، ما من حدود، تقف حائلاً بين أوتار الموسيقى وعبَق الروح وألق التعبير.