شُغف المحامي اللبناني كمال قصار بالموسيقى منذ الطفولة حين درس أصولها في الكونسرفاتوار، وأتقن العزف على الفلوت، الى أن توصل الى اقتناء أكبر مكتبة للموسيقى العربية في العالم تحتوي على 5000 أسطوانة من تسجيلات عصر النهضة، و6000 ساعة من تسجيلات على البَكَر والأشرطة. وللمناسبة يطلق قصار في مؤتمر صحافي اليوم في نقابة الصحافة اللبنانية في بيروت، مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية «amar» التي يرأسها وتختص بحفظ الموسيقى العربية القديمة ونشرها. البحث عن أسطوانات وتسجيلات موسيقية هاجس قصار المولع بالطرب العربي والشرق - متوسطي، منذ مراهقته: «كنت أبحث عن أسطوانات قديمة وحديثة ذات قيمة فنية في كل بلد أزوره، وأجمعها. وأحياناً أسافر من بلد الى آخر، لأشتري تسجيلات معيّنة». ويضيف: «كنت أكوّن مكتبة صغيرة للمتعة فقط ولأوزّع على الأصدقاء، لم يكن لدي تطلّع عام. لكن حبي الموسيقى، من جزر القمر الى زنجبار وتركيا والبحرين، جعلني أسير جمع تسجيلات الموسيقى الحديثة والقديمة». مجموعة عناني المصرية صارت مجموعة قصار تكثر شيئاً فشيئاً، الى أن اكتشف مجموعة المؤرخ المصري الراحل عبدالعزيز عناني في عام 2007، فقرّر اقتناءها وفي ذهنه همّ أول هو «العناية بالتراث الموسيقي العربي الضخم». ويشير الى أن هذا الأمر جعل «أعمال التوثيق والحفظ أكثر إلحاحاً وشحذ همّتي لصون تراث الموسيقى العربية من التلف ونشره بين الناس. إلا ان المهمة أجلّ من ان ينهض بها شخص فرد، لذلك أنشأنا «مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية» في لبنان في صائفة 2009». ويعتبر أستاذ علم موسيقى الشعوب في جامعة كاليفورنيا علي جهاد الراسي، أن «مجموعة عبدالعزيز عناني أحد أهم المراجع في دراسة الموسيقى العربية والثقافة الموسيقية، واعتمدت على مواد منها في بحثي عن موسيقى القاهرة في مطلع القرن العشرين». ويضيف الراسي: «نحن اليوم محظوظون بوجود هذه المجموعة القيّمة في حوزة مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية التي تعمل على تعهدها بالحفظ والمعالجة، وما آمله هو ان تظل هذه المجموعة معيناً يفيد منه الموسيقيون والباحثون في مجال الموسيقى ومصدر إلهام يثري حياتنا الموسيقية في قادم السنين». أما الباحثة والخبيرة الأميركية في الموسيقى العربية والشرق - متوسطية فرجينيا دانيلسون، فترى أن مجموعة عناني أفضل مجموعة في العالم للتسجيلات التاريخية لموسيقى الطرب العربي وما يتصل به من أجناس. وتفيد بأن «من بين تلك الأسطوانات تسجيلات لأصوات مطربات من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ظل الجانب الأوفر من نتاجهن مجهولاً الى يومنا. كما تضم المجموعة تسجيلات أصلية لمطربين غدت أعمالهم أُسساً لتراث الطرب المعروف، مثل يوسف المنيلاوي وزكي مراد والعديد من المطربين الآخرين، إضافة الى تسجيلات على أشرطة لحفلات حية لم يسجلها أو يحتفظ بها سوى قلة قليلة من جامعي التسجيلات، وأغلب الظن انها كانت ستضيع لولا هذه المجموعة. وتؤكد دانيلسون أن «المجموعة معْلم فريد من معالم التراث الثقافي العربي وتاريخ الموسيقى العربية سنظل نجني فوائده لقرون عدّة، إذا ما تم صونها على نحو ملائم». ولاقتناء مجموعة عناني قصة طويلة، إذ حاولت أكثر من جهة رسمية وخاصة شراءها بعد وفاته عام 2000، ومنها إذاعة إسرائيل. لكن حملة شعبية مصرية حالت دون ذلك. ثم حاولت دار الأوبرا المصرية اقتناءها، لكنها لا تملك الإمكانات المادية الباهظة لأجل ذلك. فتُركت المجموعة حتى 2007 حين قرّر ورثة عناني غير المهتمين بها بيعها لحاجتهم للمال، فكانت من نصيب كمال قصار بعد مفاوضات طويلة دخل على خطّها منافسون كثر. وقادت تلك المجموعة قصار الى تأسيس «amar» في قرية قرنة الحمرا (جبل لبنان) على نفقته الخاصة. مع استوديو مزود بأحدث الوسائل التقنية المخصصة لتحويل المواد الموسيقية الى ملفات رقمية (digital) وحفظها لئلا تضيع مجموعة عناني. كما ابتنت المؤسسة في مطلع العام الحالي قاعة متعددة الأغراض تتسع لثمانين شخصاً. انطلقت مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية بعد حلقة دراسية انتظمت في قرية قرنة الحمرا (جبل لبنان) من 17 الى 19 آب (أغسطس) 2009، بُحثت خلالها أهداف المؤسسة واستراتيجياتها والجوانب التقنية في عملها، بمشاركة باحثين في علم الموسيقى وعلم موسيقى الشعوب، من كندا (جامعة ألبرتا)، وفرنسا (من جامعتي باريس 4 وباريس 10)، والولايات المتحدة (جامعة هارفرد)، ولبنان (من الجامعة الأنطونية وجامعة الروح القدس في الكسليك)، وتونس ومصر وجميعهم أعضاء في مجلس الشورى والتخطيط في المؤسسة. وتهدف المؤسسة الى حفظ الرصيد المسجّل والمدون للسّنة الموسيقية العربية بواسطة أحدث الوسائل التكنولوجية، ودعم البحث الأكاديمي والتوثيق العلمي، ثم نقل تلك السّنة وأساليبها العملية نقلاً تربوياً، وبالتالي السعي الى نشرها عبر الوسائط المتعددة وتبصرة الجمهور بالسّنة الموسيقية العربية. ولبلوغ تلك الأهداف، تُزمع المؤسسة إنشاء مركز للبحوث والتوثيق الذي سيسعى الى تعزيز المجموعة الموسيقية الحالية باقتناء المزيد من المواد الصوتية المسجلة، وتصنيف تلك المواد وتحويلها الى ملفات رقمية بواسطة الطرق العلمية والتكنولوجيات الحديثة. ومن ضمن خطط المركز تنظيم المحاضرات العامة والندوات والمؤتمرات، ودعم النشر المتعدد الوسائط، إضافة الى تنظيم العروض الموسيقية. وسيعمل هذا المركز على جعل ما في حوزة المؤسسة من محفوظات الموسيقى العربية القديمة في متناول الباحثين والجمهور على الصعيدين الإقليمي والدولي. ويفيد قصار أن المؤسسة وضعت خطة عمل سنوية تشمل ترقيم (digitalization) مجموعة المقتنيات وحفظها وتنظيم المؤتمرات الموسيقية وإصدار أقراص مضغوطة تتضمن مواد مختارة من المحفوظات ونشر الدراسات وتنظيم الحفلات. ويؤكد قصّار أن فترة عصر النهضة التي امتدت في مصر من عام 1903 الى عام 1935، هي مدار اهتمام مؤسسة «amar» الرئيس، حيث بدأت الشركات بإنتاج اسطوانات 78 لفّة في مصر. وكانت هذه الأسطوانات المصدر الوحيد لسماع الموسيقى لأن الإذاعات لم تكن أُسست بعد في المنطقة. فأول إذاعة أنشئت عام 1932. كما استطاعت المؤسسة خلال البحث عن التراث الحصول على أسطوانة نادرة وقد تكون الوحيدة، لأهم مَن أطلقوا «الدور» في الموسيقى العربية وهما محمد عثمان الذي توفي عام 1900 وعبدو الحمولي الذي توفي عام 1901، أي قبل بدء تسجيل الأسطوانات. ويشرح قصّار أنه عندما بدأت صناعة الأسطوانات في مصر، تولّت الموضوع شركات متعدّدة الجنسيات مثل «غراموفون»، و«أوديون»، و«ميشيان»، و«سماع الملوك»، وغيرها. ولكن «كان الفنانون والموسيقيون يبيعون «الدور» نفسه الى أكثر من شركة، ولكن بصيغة مختلفة، وذلك بعلم الشركات. وأحياناً كانوا يُسجّلون الدور نفسه مرات عدة، وفي كل مرّة بصيغة معيّنة». ففي فترة البحث عن شراء هذه الأسطوانات أصرّ قصار على أن تملك مؤسسته كل ذلك التكرار والصيغ المختلفة. نوادر في متناول الجمهور ويشمل مدار اهتمام المؤسسة أصواتاً طغت عليها شعبية أم كلثوم الكاسحة مثل فتحية أحمد وماري جبران ونادرة أمين ولور دكاش، وعظماء منسيين مثل محيي الدين بعيون ومتري المر ومحمد العاشق ومحمد القبانجي، إضافة الى تسجيلات ستوديو وأخرى لحفلات حية لنجوم مثل صالح عبدالحي وعبّاس البليدي ومحمد خيري. كما تختص المؤسسة بحفظ ونشر التراث الموسيقي المجهول في لبنان وسورية وفلسطين والعراق والخليج والمغرب العربي، وتراث الجماعات السريانية والكردية والقبطية وغيرها من الجماعات العرقية المحلية الأخرى التي هي جزء من العالم العربي، إضافة الى الرصيد الحي للجماعات الصوفية وكبار مقرئي القرآن. ويقول قصار إن المؤسسة تعتزم جعل هذه التسجيلات في متناول الجمهور من خلال الأقراص المضغوطة والمنشورات. ويشير الى «أن القرص المضغوط أداة يمكن التعويل عليها في نشر المادة الموسيقية إذا ما اندرج ضمن مجموعة من المواد البلاغية». ويوضح قصار أن تلك المجموعة ينبغي أن تشمل قرصاً واحداً أو عدة أقراص تعرّف بأعمال عدد من المطربين مثل يوسف المنيلاوي أو عبدالحي حلمي الى جانب كتيّب يتضمن معلومات تاريخية وفنية وصوراً عنهم وعن أعمالهم. أما أولى المجموعات الطموحة التي ستُنتجها «amar»، فيعلن قصار انها «إصدار الأعمال الكاملة ليوسف المنيلاوي، أي مجموع ما وصلنا من اسطواناته التي كانت تعد المرجع الأول في مجال فن الغناء المتقن في مطلع القرن العشرين، وهي حوالى 62 اسطوانة أي ما يعادل ستة أقراص مضغوطة تمثّل مختلف أوجه فن المنيلاوي من دور وقصيدة وموّال وموشّح وليالٍ». ويعود السبب في إعطاء الأولوية الى هذا العَلَم الى «مكانته الفنية وجودة التسجيلات التقنية (لا سيما الأسطوانات التي سجلت في أيار/ مايو 1910)، بحسب قصار. وتعتزم «amar» إنشاء موقع الكتروني يقدم مواد الموسيقى العربية بأعلى جودة ممكنة تتيحها التكنولوجيا. ويوضح قصار: «نحن في صدد التفكير في إنشاء محطة للبث الإذاعي عبر الشبكة تقدّم برامج تثقيفية عن الموسيقى العربية تعد وتقدم بأصوات القديرين من المؤرخين والباحثين وعشاق الموسيقى بما يختلف عما اعتدنا سماعه من بعض الإذاعات حالياً على الشبكة والتي لا تفتأ تكرر بث المواد الموسيقية نفسها من دون أي مضمون معرفي». يذكر ان المؤسسة تقدم السبت المقبل حفلتها الموسيقية الأولى، «سهرة للطرب» مع فؤاد زبادي ومجموعة أصيل بقيادة مصطفى سعيد، في قاعة بيار ابي خاطر في الجامعة اليسوعية في بيروت.