تعتبر الخريطة السياسية فى قرية غياضة الشرقية بمحافظة بنى سويف كما يرى على عثمان 50 سنة قد بدأت تتغير فى اتجاه غير معلوم ولااحد فى عاصمة المحافظة يهتم بما يحدث فى الريف وفى منطقة شرق النيل بصفة خاصة منتقدا إنكباب قوى المجتمع من النخبة فى بنى سويف العاصمة ومدنها على توعية شرائح لديها وعى سياسى بالأساس تاركين خلفهم القرى تصارع ماضيها السياسى وهذا هو الخطر الذى لم ندركه بعد الثورة فى طول البلاد وعرضها, القرية ثم القرية ثم القرية وعلى مقهى "السكّرية" الشهيرة بمنطقة الحمرايا بشرق النيل ببنى سويف التى تبعد عن قريته غياضة الشرقية نحو 15 كيلومترات تقريبا يلقى عثمان بعباراته, بحكم عملى فى الصحة منذ اكثر من عشرون عاما كنت أتعامل أحيانا مع البسطاء واكتشفت غياب الوعى بحقوقهم إلى حد كبير، ففكرنا فى تأسيس جمعية ذات طابع تنموى لكن زياراتى المتكرره لميدان التحرير منذ قيام الثورة إلى جانب السجالات الدائرة بين التيارات السياسية والنخبةكشفت لى أن التاريخ يُصنع بشكل آخر وهو ماجعلنا نفكر فى تحول مشروع الجمعية إلى (رابطة للوعى السياسى) بالقرية غياضة وتوابعها .. يأمل " على عثمان " ورفاقه فى أن يكون لهم دور فى تغيير ملامح العملية السياسية فى قريتهم فى المرحلة القادمة
فى الطريق إلى "غياضة" يشرح طبيعة القوى السياسية هناك قائلا: كانت أكبر قوة سياسية بيد الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل كسائر الريف المصرى وأما أسس إختيار النائب فكانت تحددها أمور كثيرة كقدرة المرشح على التأثير على العائلات ذات القدرة التصويتية العالية وقريتنا تتبع دائرة ببا الإنتخابية حيث يراهن كل مرشح برلمانى بالدائرة على إجتذاب أصوات الشراقوة من أجل نيل كرسى البرلمان
وعلى مقهى "عوض الحيملى" الصغيرة فى مدخل القرية ينتمى عُمر إلى إحدى العائلات المؤثرة سياسيا فى القرية يتذكر معاناة جيلة من الإحباط وعدم ممارسة السياسة فى الجامعة .. يقول فى عام 1997 انضممت إلى حزب "الوفد الجديد" مخالفا لوالدى الذى كان سابقا عضوا فى الاتحاد الاشتراكى ثم من بعده عضوا فى الحزب الوطنى بالتبعية وينوى عمر رمضان تأسيس مقر لحزب الوفد الجديد بالقرية مستندا إلى اختلاف الأجواء عن السابق
ويقول: كان الأمر فى الماضى يصل إلى حد تدخل البعض فى طموحاتى السياسية تحت تأثير قوة الحزب الوطنى على العائلة وقتها وازداد الأمر حين انضممت إلى حزب الوفد واعتبرونى فى القرية "مجنونا " وضد نظام مبارك أما اليوم وبعد ثورة التحرر أستطيع الكلام بالمناسبات العمة الإجتماعية لاُعلن صفتى المحسوبة على الوفديين بعد أن عادتالحياة شيئا ما إلى هذه الاحزاب وأصبحت المحظورة ليست محظورة بل اصبحت فى سُدة الحكم.
تلك الحالة الجديدة على القرية التى يستبشر بها على عثمان وعمر رمضان لايزال يصاحبها غموض قادم خصوصا أن القواعد القديمة للعملية السياسية لم تتغير وهناك شرائح كانت مؤيدة للحزب الوطنى ما زالت تتحسس الطريق أحدهم على سبيل المثال هو "الشيخ مبروك" الذى كان عاشقا للحزب الوطنى ونائب الحزب الوطنى والوحيد الذى لم يتبرأ حتى الآن من ماضيه السياسى قائلا:
وبحكم خبرته السياسية فى القرية يرى أن قواعد اللعبة السياسية لن تختلف كثيرا عن ماضيها ويشرح ذلك ربما يكون هناك 20% من الناخبين هم من سيختارون مرشحهم على أساس سليم أما الباقون فستظل تحكمهم القواعد القديمة اعتمادا على علاقة المرشح بالعائلات والعصبيات والقبليات وما يقدمه من إنفاق على القرية بل أعتقد أن التيار الاسلامى بكافة اطيافه قادم فى شراكة محدودة مع بعض هذه العائلات كما كان يفعل سلفه– الوطنى المنحل - اما أحزاب الانابيب الجديدة كما يطلق عليها الشيخ مبروك فلن تجد رواجا بين أبناء الريف لانهم مازالوا بعيدين كل البعد عن واقع العقلية المصرية بل وينظرون له من اعلى وهنا تكمن المشكله.
ينضم إلى الجلسة طالبا بالسنة النهائية فى كلية الادآب إسلام سعيد وصديقه خالد صلاح بكلية الحقوق وكلاهما من زملاء عمر رمضان فى الجمعية الجديدة ذات الموقف السياسى الداعى للدولة المدنية، بمجرد مجيئهما إستدعى الحديث عن الإخوان المسلمين فى القرية موقفا تعرضا له أثناء الاستفتاء الأخير إذ وقع اشتباك طفيف أمام مقر اللجان بمدرسة غياضة الشرقية عندما حاول بعض الشباب طرح وجهة نظرهم حول التعديلات الدستورالجديد وقالوا " لا " خوفا من تأثير الإخوان على الجماهير والزج بهم ناحية (نعم). يقول عمر رمضان لقد وصفنا احدهم باننا ثورة مضادة رغم اننا جميعا شاركنا فى الثورة
ويتنامى نشاط التيار الإسلامى فى القرية بشكل ملحوظ عبر النشاط الخدمى والدعوى والتواصل الفعال مع الجماهير لكن تظل هناك قواعد متشابكة داخل " منطقة شرق النيل " لاختيار المرشح البرلمانى، منها أن يكون المرشح من أبناء المنطقة او مربوط معها بصلة عصبية اوقبيليه
ولدى عماد الدين عثمان أحد المنتمين لحزب الحرية والعدالة بقرية غياضة الشرقية تعليقات حول مخاوف البعض من ازدياد فرص الإخوان فى المستقبل إذ يقول ليس ذنب الإخوان أن فاعلياتهم تعمل طوال العام وليست فى المواسم الإنتخابية فقط أضف إلى هذا أن لديهم خطة عمل وحملات تثقيفية قادمة وأنشطة خدمية لقريتنا التى حرمها الحزب الوطنى كثيرا من ابسط حقوقها فى التنمية او ايجاد حلول لمشكلة البطاله لابنائها
يزداد القلق لدى بعض الشرائح المثقفة فى القرية وأنصار الحزب الوطنى المنحل من تنامى التيار الدينى بالقرية خاصة بعد الهجمة الإعلامية الشرسة عليه وكلها تخوفات تزداد لدى شاب مثل عمر رمضان الذى يسترجع كلمات لشيوخ السلف عن الدولة المدنية والدولة الدينية وهذه التخوفات يراها كارم محمود المنتمى إلى التيار الاسلامى أمرا مبالغا فيه قائلا ما الضرر أن تكون مرجعيتى دينية فى مقابل مرجعيات كثيرة علمانية ولبرالية واحيانا ماركسية
يخرج أيمن انور الشاب الذى لم يتجاوز 30 سنة عن صمته طوال فترة جلوسه على المقهى كاشفا عن أنه ينتمى لأقلية نادرة من اليساريين فى قرية غياضة الشرقية بل أنه عضو فى حزب التجمع من قبل الثورة ويقول لا شك أنها غربة أن تكون ضمن أقلية فى مواجهة كتلة كبيرة مؤيدة للحزب الوطنى المنحل ووسط حضور للتيار الدينى هنا والذى بدأ ملحوظا تناميه فى هذه الفترة القصيرة بعد الثورة ولاسيما فى القرى ذات الطابع القبلى كقريتنا
يبتسم صديقه أسامة الحبشى الذى طالما عارضه فى انتمائه السياسى لكن أنور يكمل حديثه لا شك أن هناك صورة نمطية لليسارى فى القرية بل فى اغلب الريف المصرى بصفة عامة خصوصا مع تحذيرات المشايخ على المنابر طوال السنوات الماضية وارتباط القرى بالنزعه الدينية وسطوة الحزب الوطنى فى السابق والتضييق الأمنى .. أما الآن فحسبما يصف أيمن انور أصبحت لنا شرعية كشباب بعد نجاح الثورة حتى فى التعامل مع عائلاتنا
صخب الحديث عن المستقبل يشوش عليه صخب السيارات التى تمر من أمام المقهى فى طريق المقابر للوصول الى المعدية الوحيدة التى تربط ضفتى النيل شرقا وغربا عند مركز ببا ومقاطعة المارة للحديث بالسلامات والتحيات كعادة اهل الريف وفى إحدى اللحظات الهادئة يقتنص أسامة الحبشى عضو الجمعية الفرصة لافتا إلى أمر خطير داخل القرية ويقول: أخطر ما قد نواجهه مستقبلا هو تفتيت الأصوات مع ازدياد عدد المرشحين وهو ما قد يأتىمستقبلا بنواب لا نرغب فيهم وغير مرضين لطموحنا ونجد عجلة الزمن تعود بنا للوراء واللهم إلا تغيير الأسماء والصفة الحزبية ونحن نصفق للحاضر كما كنا نصفق للماضى ..
يصمت الجميع قليلا ثم يبدأ على عثمان الأكبر سنا فى طرح مقترحات مشيرا إلى تعاونه مع بعض القوى الشبيهة فى بنى سويف العاصمة مثل بعض الائتلافات الشبابية الجديدةوجبهة الإنقاذ رغم أنه لايجد لها تواجدا ملموس بالشارع السويفى رغم انها تمثل كافة الإتجاهات السياسية ..
العبارة لم تمنع أسامة الحبشى من العودة إلى نقطته الأولى مرة أخرى قائلا «كل ما نخشاه هو أن نراهن كشباب مستقل على أحد المرشحين وندعمه ثم يخذلنا .. نحن مقدمون على مرحلة صعبة» أما على عثمان فيختتم قائلا: «الريف هو البوابة الخلفية للسياسة فى مصر فإن لم تحموا بوابة مصر الخلفية فانتظروا عودة الماضى قريبا .. وقولوا على الثورةالسلام»