تطور "سوق عكاظ" في الطائف على مر السنين ليتحول من ظاهرة ثقافية موسمية سياحية إلى مهرجان وطني يقوم بأدوار عميقة تبرز ما تتمع به المملكة من إرث قديم يُعبر عن تاريخ كبير ممتد إلى عصور ماقبل الإسلام وبعده، فضلاً عن إبراز البعد الحضاري للمملكة. واهتمت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بهذا المهرجان الوطني، وجعلته أحد أهم المشروعات الأساسية في برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري الذي تنفذه الهيئة برعاية ودعم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود حفظه الله . ويعد سوق عكاظ أكبر أسواق العرب في الجاهلية والإسلام، وهو أشهر ملتقى للتجارة والفكر والأدب والثقافة المتنوعة للقبائل العربية، والوافدين إلى السوق من أنحاء الجزيرة العربية، يحضره فطاحلة الشعر العربي، والخطباء، والأدباء، ويمارس فيه رواد السوق الألعاب الرياضية ومنها الفروسية، والعدو، والرمي. وأوضح مستشار رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني للتراث الدكتور سعد بن عبدالعزيز الراشد أن أسواق العرب في الجزيرة العربية كانت من مظاهر التطور الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، مشيرًا إلى أن سوق عكاظ تًفرّد عن باقي الأسواق التجارية لكونه أكثر تأثيراً وحضوراً وجاذبية، حيث تميزت البقعة الجغرافية المختارة للسوق بفضائها الواسع، وتلتقي فيها مسارات طرق التجارة القادمة من اليمن وعمان واليمامة وشرق الجزيرة العربية، طَرقتْها قوافل قبائل العرب بتجارتها محملة على ظهور الإبل، وتحط كل قبيلة رحالها في المكان المخصص لها من السوق. وأضاف: كانت مواسم سوق عكاظ تصل أعداد المتسوقين فيها إلى الألوفٍ المؤلفة، وعدت معرضاً تجارياً شاملاً تُجلب إليه أنواع البضائع المختلفة من كل حدب وصوب، فكانت تأتيه السلع من هجر، والعراق، والشام، واليمن، ويجلب منها : السمن، واللبن، والإقط، والأغنام، والإبل، والطيب، والحرير، ومن الطائف : الجلود، والزبيب، والعنب. واشتهرت عكاظ ببيع الأُدم، حتى قيل: " أديم عكاظي" نسبة إلى عكاظ مع أنه لم يكن منتجا في السوق، بل لكثرة ما يرد من أنواعه إلى عكاظ من مختلف الأنحاء. وأكد الدكتور سعد الراشد أن قيمة سوق عكاظ التاريخية تُظهر أن موقعه الجغرافي تميز باستيعابه التجارات المحلية والإقليمية والقوافل التي ترد من خارج حدود جزيرة العرب، وشكل توقيت تنظيم السوق في فترة زمنية تسبق موسم الحج، في شهر ذي الحجة، مدتها (21) يوماً. وأفاد الراشد أن بداية تاريخ سوق عكاظ حسبما ورد في المصادر التاريخية والأدبية تعود إلى عام 501 للميلاد، أي قبل ظهور الإسلام بقرن من الزمان، وفي ضوء التقييم والتحليل لأحوال العرب قبل الإسلام، يمكن استنتاج فترة تاريخ ظهور سوق عكاظ حيث كانت طرق التجارة قد انتظمت، وتقاطعت على جزيرة العرب مع تطور الممالك العربية في مختلف أنحاء جزيرة العرب. وقال: كانت مكةالمكرمة محجة للعرب من آلاف السنين، كما كانت مدن القوافل قد أخذت مكانتها التجارية والاقتصادية ومنها الطائف، ويثرب (المدينةالمنورة)، وخيبر، والحجر، وتيماء، ودومة الجندل، وغيرها. وأضاف : نستطيع الاستنتاج أن سوق عكاظ انتظم عقده، وإدارته، قبل سقوط مملكة حمير سنة 525م، وبهذا كانت أسواق العرب وحركة التجارة مستقرة، وانتظمت على نسق محكم، قبل سقوط الممالك العربية المتأخرة، في حين كانت قريش لا تتاجر إلاً مع من يرد إليها في مكةالمكرمة، ومن خلال الأسواق الثلاثة: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز وهي الأسواق المرتبطة بالأشهر الحرم، وموسم الحج إلى الكعبة تحديداً، وجاء الإيلاف لقريش بتجارتها إلى الممالك المجاورة. وأبان أن سوق عكاظ ارتبط بنشأة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونشر الإسلام بين قبائل العرب، والدعوة لدين الله، واحتضنت ديار بني سعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أتت به حليمة السعدية رضي الله عنها، ليقضي طفولته في مرابع قومها في أرض رعوية وليست ببعيدة عن موقع سوق عكاظ. وقد جاءت به حليمة السعدية إلى سوق عكاظ عندما كان في حضانتها. وكانت العرب قاطبة ترد مكة أيام المواسم، وترد سوق عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، وتقيم هناك الأيام الطوال، بينما شهد الرسول صلى الله عليه وسلم سوق عكاظ في حرب الفِجار، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم: " قد حضرت مع عمومتي ورميت فيه بأسهم، وما أحب أني لم أكن فعلت "، كما حضر الرسول صلى الله عليه وسلم، سوق عكاظ صبياً، وحضرها شاباً، وحضرها بعد البعثة. وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس إلى عكاظ ليريه منازل أحياء العرب، فكان بعد هذا يتردد على من يتوسم فيهم مساعدته أو الاقتناع بدعوته لهم لدين الإسلام. وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم في سوق عكاظ قبائل عدة كان يعرض عليهم الإسلام، ويبحث عن من يمنعه حتى يبلغ رسالات ربه، حتى بعث الله إليه الأنصار، من أهل المدينة، وبعد انتشار الإسلام، وقد كره المسلمون في بداية الأمر القدوم على متاجر الناس في الجاهلية، ورأوا أن التجارة في المواسم تكسبهم إثماً. فنزل قول الله تعالى: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ? فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ" البقرة: آية (198). وأفاد الدكتور سعد الراشد أن سوق عكاظ بقي مركزاً تجارياً خلال العصر الإسلامي المبكر، وكذلك محطة رئيسة على طريق الحج القادم من اليمن مروراً بنجران وعسير والحجاز، وتعرض للتخريب والنهب على أيد الخوارج الحرورية بقيادة المختار بن عوف الذي سيطر على مكة سنة 129ه/747م. لكن المصادر التاريخية والمكتشفات الأثرية تدلل أن موقع سوق عكاظ استمر فترة طويلة، محطة للتجارة والحج حتى القرن السادس للهجرة، و على أرض عكاظ، كانت تتم المصالحات، وتنتهي العداوات، وتصدر الأحكام الخلافية والتجارية، وتعلن التحالفات، والمعاهدات والإجارة، تفتقت قرائح عباقرة الشعراء ومنهم النابغة الذبياني، والنابغة الجعدي، وحسان بن ثابت، وعمرو بن كلثوم، والأعشى بن قيس، والخنساء تماضر بن عمرو، والسليك بن السلكة وغيرهم كثير. وشهدت عكاظ نوعًاً آخر من الأدب، وهو الخُطَبْ، وقد كانت للخطبة والخطباء عند العرب مكانة لا تقل أهمية عن الشعر، ومن أشهر خطباء العرب في عكاظ: أكثم بن صيفي، وقس بن ساعدة الأيادي. وفي ذلك السياق بين الدكتور سعد الراشد أن احتكاك قبائل العرب في سوق عكاظ- والأسواق التجارية الأخرى- أدى إلى تقريب اللهجات العربية المختلفة، وتهذيبها وتوحدها. وحين نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزل بلسان عربي مبين، وما كان للعرب أن يفهموه لو لم تكن لهجاتهم قد توحدت على لغة القرآن الكريم. وبقيت ومضات من ذاكرة سوق عكاظ، محفوظة في بطون كتب التاريخ والشعر والأدب، وروايات وقصص يتذاكرها الأوائل ممن عرفوا سوق عكاظ قبل البعثة وبعد هجرة أوائل المسلمين إلى المدينةالمنورة وانتهاء بفتح مكة.