كنت في روما صحبة عدد متنوع من الشخصيات الدينية والثقافية التي جاءت من القارات الخمس، وقد توفرت فرصة لنا جميعاً لكي نلتقي بالبابا فرنسيس، الذي وصف المشاركين من مختلف الديانات السماوية والأرضية ب «رسل السلام». هذا البابا المحبوب جداً، القادم من أمريكا اللاتينية ليواصل علاقته الوثيقة بالفقراء. حضرنا جميعاً رفقة رجال دين من كل المعتقدات، للمشاركة في مؤتمر ضخم تمت الدعوة إليه بمبادرة من منظمة «سانتي جيديو» الإيطالية المعروفة بجهودها الواسعة في حل النزاعات وإدارة الحوار بين ممثلي الديانات. وقد عرفت هذه المنظمة في العالم العربي من خلال جمعها عدداً من أطراف الحرب الأهلية التي اندلعت في الجزائر على إثر إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في مطلع التسعينيات. وذلك في لحظة عجز الجميع عن وضع حد لتلك المواجهة الدموية التي أدت إلى مقتل أكثر من 200 ألف جزائري، التي لا تزال آثارها عميقة في الواقع وفي الذاكرة. ولسائل أن يسأل : ما هي أهمية الحوار بين الأديان في مرحلة صعبة يديرها حالياً الاقتصاد والعسكر. مع ذلك هناك أكثر من عامل يفرض أن نعطي أهمية كبرى لهذا الحوار. الحوار بين المؤمنين من مختلف الديانات ضرورة استراتيجية. لا نقول ذلك من باب التضخيم أو النفاق الاجتماعي، وإنما اعتقاداً بأن هذا الحوار إذا اكتسى طابعاً جديّاً وعميقاً، وتحوّل إلى اختيار دائم، وتوفرت له الآليات التي تجعله مؤثراً ومنتجاً لاقتراحات وتوصيات قابلة للمتابعة والتنفيذ، فإنه سيساعد كثيراً على حل عدد من المشكلات الفلسفية والسياسية التي لا تزال تؤرق المؤمنين وغير المؤمنين في كل أنحاء العالم. إذ هناك بعض المشكلات التي يمكن أن يساعد الحوار بين الأديان على معالجتها، أو على الأقل التخفيف من حدتها. الأنبياء يوحدون ولا يفرقون تتمحور الحياة الروحية لأتباع الأديان حول الاعتقاد في وجود رب أعلى، خلق الكون، وطلب من عباده أن يعبدوه، وأن يلتزموا بقيم الخير والرحمة والمحبة والعدل، لأنهم سيحاسبون على أعمالهم. ومن أجل ذلك تم إرسال الأنبياء الذين كلفوا بتجسيد تلك القيم على أرض الواقع، ولا يجوز في هذا السياق أن يصبح الأنبياء سبباً في الفرقة والصراع، بدل أن يكونوا مصدر الوفاق والتعاون. لقد اختلف الأنبياء في جوانب تتعلق بأشكال العبادة، لكنهم اتفقوا في الجوهر حول الإيمان بالله، والدعوة إلى نفس القيم الإنسانية. لقد شبّه الرسول محمد صلَّى الله عليه وسلَّم الرسل بمن تعاونوا على بناء بيت، إذ كل رسول يأتي ليضع لبنة، حتى اكتمل البناء وبقيت لبنة واحدة، فقال «أنا تلك اللبنة وأنا خاتم الأنبياء « ولهذا لا يجوز لأي مسلم أن ينكر نبوة أي رسول أو نبي، ومن يفعل ذلك متعمداً، فقد أخرج نفسه من دائرة المسلمين. فالدين واحد وإن اختلفت المداخل والأبواب والطرق. بناء عليه، عندما يتحاور المؤمنون من مختلف الأديان، فإنهم بذلك لن يكتشفوا فقط أنهم قريبون من بعض، بل إلى جانب ذلك سيتأكدون من وحدة مصدر الدين، ويثبتون وحدانية الخالق. فالأديان توحد ولا تفرق بين الخلق، لأنه إذا كانت المرجعية مشتركة فإن نقاط الالتقاء ستكون متعددة مهما اختلفت الطرق والوسائل. الجنة تسع الجميع الجنة غاية كل مؤمن، فهي من ناحية تحقيق للوعد الإلهي، ومن ناحية ثانية هي تتويج لمسار فردي قائم على الحب والمعاناة وفعل الخير وضبط النفس. لكن كثيراً من المؤمنين تختلط عندهم الأشياء، فيظنون أن الجنة قد أصبحت ملكاً لهم، يدخلون إليها من يشاءون، وبالخصوص يطردون منها من هم مختلفون عنهم في الدين والمذهب وحتى في الموقف السياسي. وهذا تصور سطحي وساذج للجنة. ولهذا قال المفكر الإيراني علي شريعاتي لهؤلاء : «عليكم أن تصلحوا أنفسكم وتبذلوا جهوداً ضحمة لتضمنوا دخول الجنة بدل أن تشغلوا أنفسكم بمنع الآخرين من الولوج إليها». وعندما يلتقي المؤمنون من مختلف الديانات فإنهم سيدركون حقيقتين، الأولى أن جنة الرحمن تسع الجميع دون تمييز بينهم، وثانياً أن المؤمن الحقيقي لا يستطيع أن يجزم إن كان سيدخل الجنة أم لا، فذلك من علم الله. حتى الأنبياء لا يمكنهم الجزم بذلك، لأن الله وحده هو العليم بمصائر خلقه. وهي فكرة أساسية لقطع الطريق أمام من يريد أن يتاجر بالجنة، ويوهم الناس بأن مفاتيحها بيده يخرج منها من يشاء أو يدخل إليها من يريد.. لا يعني ذلك أن الظالمين والقتلة والجلادين سيلتقون مع ضحاياهم في الجنة لأن ذلك مناقض للعدل ولفلسفة الحياة، ولكن الأصل في الأشياء أن الله هو الحكم بين خلقه في هذه المسألة وليس فلان أو علان. الحقيقة نسبية، هذا ما يؤكده حوار الأديان، لأن الذي يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة يدعي ملكية ما لا يملكه. فالحق المطلق هو الله، والجميع يجتهدون للاقتراب منه والتعرف عليه من خلال خلقه لا من خلال التوصل إلى جوهره. ولكل في هذا المجال طريقته ومسلكه، ولهذا قال أحد المتصوفة المسلمين محي الدين بن العربي «اعلم أن الطرق إلى الله بعدد أنفس الخلائق». أي أن الله هو الغاية، وأن الوصول إليه يمكن أن يتم بوسائل عديدة. ويترتب على مثل هذا الاعتقاد أن الحقيقة نسبية، وهي موزعة بيننا، ولكل منا جزء منها، ولهذا عندما نتحاور يكمل بعضنا بعضاً، ويكتشف في الآخر ما هو مفقود فيه أو ضائع منه. لا يعني هذا أن أتنازل عن «حقيقتي» ولكن هذه الحقيقة التي أدافع عنها وأعيش من أجلها ليست مطلقة، ولا تسمح لي بأن أعادي الآخرين وأحاربهم أو أعتدي على «حقائقهم ».