هناك الكثير من القيم السامية النبيلة التي تجمع البشر من مختلف الديانات والمعتقدات، والدعوة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين لإقامة حوار مع الآخر؛ تضمنت التأكيد على أن هذه القيم الجميلة والنبيلة الموجودة في كل الأديان والمعتقدات يمكن البناء عليها كقواسم مشتركة بين الجميع لخلق علاقات إنسانية قائمة على المحبة والسلام ونشر التسامح والسلم في العالم. وهي ترجمان حقيقي للمعاني السامية للإسلام وتعامله مع البشر أياً كانت أجناسهم أو معتقداتهم، والتي يجب أن يفهمها غير المسلمين. ؟ كيف تقرأون هذه الدعوة التي ستكون محوراً رئيساً في لقاء علماء المسلمين في مكة أواخر هذا الشهر؟ ؟ وما الأسس الرئيسة التي يمكن البناء عليها لإقامة حوار إيجابي ناجح؟ هذان المحوران طرحناهما في العدد الماضي على عدد من علماء الأمة وفي هذا العدد نواصل نشر آراء عدد آخر من العلماء والمفكرين. وجادلهم بالتي هي أحسن يقول الدكتور يوسف القرضاوي: نحن المسلمين مأمورون بالحوار مع الآخرين؛ لأن هذا المنهج أحد مناهج الدعوة الإسلامية، الدعوة في الإسلام تقوم على أساسين: الدعوة مع الموافقين من أهل الإسلام، والحوار مع المخالفين من غيرهم، والقرآن الكريم يقول: (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن..) بالحكمة والموعظة الحسنة مع المخالفين، والجدال بالتي هي أحسن. مع.. الحكمة والموعظة الحسنة مع الموافقين، والجدال بالتي هي أحسن مع المخالفين؛ ولذلك اكتفى في الموعظة بأن تكون حسنة؛ لأنها مع من يوافقون، يكفي أن تكون حسنة؛ ولكن مع من يخالفك ينبغى اللجوء إلى الجدال العقلاني. ونحن حين نقرأ القرآن الكريم نجده مليئاً بالحوار، حوار الرسل مع أقوامهم، حوار سيدنا نوح مع قومه (قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فاتنا بما تعدنا إن كنت..) حوار سيدنا إبراهيم مع قومه (وحاجه قومه قال أتحاجونّي في الله وقد هدان) ، فالقرآن كتاب حوار؛ ولذلك نحن لا نخاف من الحوار. هناك بعض المسلمين يتخوفون من الحوار ، لماذا هذا الخوف؟ نحن أقوياء ونقف على أرض صلبة، فهذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى نحن نعيش في عالم تقارب وتقارب جداً، بعض الأدباء يقولون: "العالم قريتنا الكبرى، وأنا أعلق عليه أقول: لا، العالم قريتنا الصغرى؛ لأن القرية الكبرى قديماً كان لا يعلم الناس في شرقها ما يجري في غربها؛ ولكن الآن نحن نعلم ما يجري في العالم بعد لحظات أو في التو، العالم قرية صُغرى، وما دام أهل العالم الآن أصبحوا قرية فلابد أن يتعاونوا على مصالحهم المشتركة ويبحثوا عن المشترك بينهم، لابد أن يكون هناك قاسم مشترك، وهذا ما أمرنا به القرآن في جدال أهل الكتاب حينما قال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). شروط النجاح ويشدد الدكتور عبد الرزاق الجاي، (عضو المجلس العلمي للرباط وأستاذ كرسي السنة وعلومها بجامعة محمد الخامس)، على أن الحوار لن ينجح إذا كان بين فئتين أو طرفين، كل واحد ينظر إلى الثاني نظرة دونية، مبرزاً شروط نجاح الحوار مع الآخر، وأولها: العودة إلى الذات على أنه لا يجب أن ننظر للحوار من منظور نخبوي، مثل انتخاب العلماء أو المفكرين وحدهم، بل الحوار ينبغي أن يكون شاملاً لجميع فئات الأمة الإسلامية انطلاقاً من النص الشرعي: (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)؛ إذ يجب العودة إلى مفهوم الأمة الموحدة الذي صوره الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". ويؤكد العالم المغربي لليمامة أنه علينا جميعاً أفراداً ومؤسسات العودة إلى ذواتنا والتساؤل: من نحن؟، وماذا علينا أن نقدم للعالم.. فالمسلمون إن أرادوا أن ينجحوا في الحوار عليهم أن يقدموا أشياء ملموسة، فالمسلم الحقيقي فعال لا قوال؛ مضيفاً أن العالم المسيحي مثلاً قدم ويقدم أفعالاً ومنجزات لمسيحيته بالاجتهاد؛ حتى إنه دخل صلب العالم الإسلامي مستغلاً صناعة الفقر والجهل التي تسود بلاد العرب والمسلمين. ولإنجاح الحوار بين أتباع الديانات أو بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، يجب على المسلمين، وفق عضو المجلس العلمي للرباط، أن لا ينظروا إلى الآخر نظرة دونية، ولا أنه أفضل منه، فهو يفضله بالتقوى، وهذه النعمة هي التي تجعله ينظر إلى الطرف الثاني (مسيحيون أو يهود) نظرة رحمة بالأساس، ذلك أن الله تعالى قضى بذلك: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين..)، فينظر المسلم إلى الآخر نظرة رحمة منضبطة بحرية الاعتقاد مصداقاً لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..)، وهذه القاعدة العظيمة، يردف الدكتور الجاي، هي أصل العلاقة بين المسلم واللآخر: (لكم دينكم ولي دين) وذلك في شتى مناحي الحياة من جوار وتجارة وتعامل وفي بناء الوطن أيضاً.. والحوار كما يوضحه الدكتور محمد الجاي ليس مطلوباً منه أن ننتصر نحن المسلمين على غيرنا من أتباع الديانات السماوية الأخرى، ولا أن ينتصروا علينا، فمسألة علاقة المسلم مع غير المسلم ينبغي أن تكون علاقة إنسانية تشاركية شرط أن يحترمك الآخرون ديننا ونحترم نحن معتقداتهم؛ ولكن لا يجوز لهم أن يعتدوا على حرمتنا أو يشوهوا حضارتنا أو يشتموا رموزنا أو مقدساتنا الدينية أو يسفهوا عقيدتنا؛ لأنه في هذه الحالة لن يعود للحوار جدوى، وهذا هو شرط الحوار المتبادل بيننا كمسلمين وبين غير المسلمين. خطوة في الطريق الصحيح ومن ناحيته نوّه الشيخ الأستاذ محمد صلاح الدين المستاوي الباحث الإسلامي التونسي وعضو المجلس الإسلامي الأعلى في تونس بدعوة خادم الحرمين الشريفين، واعتبر المؤتمر خطوة في الطريق الصحيح، وقال في تصريح ل "اليمامة": لا غرابة أن تتعالى الأصوات المنادية بضرورة الحوار ومدّ الجسور للتواصل مع الآخر في هذه المرحلة من تاريخ الإنسانية؛ وهي مرحلة زالت فيها الحدود والقيود وتقاربت فيها الشعوب والأمم من بعضها البعض بحكم التطور الحاصل في وسائل الاتصال والانتقال من مكان إلى آخر؛ والتي اختصرت المسافات حتى غدا العالم كله قرية واحدة يستطيع الواحد أن ينتقل من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه في اليوم الواحد. فالتواصل اليوم لا مفر منه والتعايش لا بد منه مهما اختلفت الأجناس والأعراف والألوان واللغات والأديان والعقائد، وفي التواصل تحقيق لمصالح الجميع. أكد سماحة الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين ورئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس، أن موضوع حوار الأديان من أكثر المواضيع إثارة للخلاف والجدل. وأضاف سماحته، في الحقيقة لا يهدف الحوار بين الأديان إلى محاولة التقريب والتوفيق بين جوهر العقائد للأديان ولا حتى التطرق إليها أو مناقشتها لا من قريب ولا من بعيد كما يظن البعض ممن يسيء فهم هذا النوع من الحوار؛ حيث يقر ويسلم المتحاورون من أتباع هذه الأديان بوجود تباين تام في كثير من المسائل العقائدية بين هذه الأديان التي لا يمكن التوفيق بينها وإزالة الخلاف فيها ( فمثلاً لا يمكن أن يتفق الإسلام أبداً مع النصرانية في عقائد التثليث والتجسد والصلب). فضائل مشتركة وقيم دينية وتابع التميمي؛ ولكن هذا الحوار هو حوار لإيجاد أرضية مشتركة من الفضائل والقيم الدينية التي تحث على العدالة والسلام والتسامح والتعايش واحترام وقبول الآخر على ما هو عليه من الاختلاف العقائدي ونبذ الفتن والصراعات الدينية بين أبناء الأمة الواحدة وتوحيد الصفوف في مواجهة الأخطار والمؤامرات الخارجية، وهو أحد الأهداف الرئيسة للحوار الإسلامي المسيحي في فلسطين للوقوف صفاً واحداً في مواجهة العدوان الإسرائيلي الغاشم ومحاولاته بذر بذور الفتنة الطائفية بين أبناء الشعب الواحد؛ بالإضافة إلى توحيد الجهود في مجابهة الإلحاد والانحلال والرذيلة والمخدرات والإجهاض. وقال: إن من الأمثلة على ذلك تعاون المسلمين والمسيحيين ضد ما طرح في "مؤتمر السكان والتنمية" في القاهرة قبل سنوات من أفكار واقتراحات تحاول أن تقضي على كل الأخلاق العائلية، وإباحة الإجهاض والإباحية وقد أثمر هذا التعاون في إفشال هذه التوجهات المنحرفة. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك تصدي علماء المسلمين ورجال الدين المسيحيين ورجال دين يهود من طائفة ناطوري كارتا لمسيرة الشاذين جنسياً في مدينة القدس عام 2006والنجاح في إفشالها حفاظاً على قدسية وطهارة مدينة القدس من مثل هذه الممارسات المناقضة للفطرة والشرائع والأديان. وأكد أن للإسلام في هذا الحوار تأثير وفاعلية أكثر من غيره من الأديان الأخرى؛ لأنه لا يزال يملك القوة والحيوية والديناميكية والتأثير على الجماهير في تحقيق الأهداف ومواجهة التحديات بينما ضعف تأثير الأديان الأخرى واقتصر على رجال الدين في الكنائس والكنس.