كتبتُ عن الفساد بشقَّيه وكتب غيري مقالاتٍ وكتباً، ويكفيني مدخلٌ لموضوع مقالتي هذه ملخصٌ أقول فيه: إنَّ الفسادَ لم يدع جهة حكوميَّة، ولا مؤسَّسة مجتمع مدنيٍّ إلاَّ وقد تغلغل فيها، وأنَّ محاولات اجتثاثه لم تحقِّق نتائج تنشر الأمل والتفاؤل، بل إنَّه يستشري بطريقة أسرع وأكبر ممَّا هو عليه قبل محاولات اجتثاثه عن طريق الهيئة الوطنيَّة لمكافحة الفساد، وقبل الجهود الأخيرة المشكورة عليها هيئة الرقابة والتحقيق، فكيف نتخلُّص من الفساد بشقَّيه إذا ما أخفقت جهات مكافحته ومراقبته؟!. سؤالي المنتهية به فقرتي السابقة هدفُ مقالتي، وإجابته التي سأحاولها حافزي للكتابة في هذا الموضوع مجدَّداً، ومنطلقي إليها إيماني بأنَّ النزاهةَ لا تُعدم في شريحة كبيرة جدّا من المواطنين، وأنَّ الفساد وخيانة الأمانة لا يمثُّلهما إلاَّ شريحةٌ صغيرة منهم بعضهم يستعين بوافدين ضدَّ وطنهم ومواطنيهم، شريحة أفسدت خدماتنا العامَّة وعوَّقت تنميتنا الوطنيَّة وسوَّدت الحياة، فكيف استطاعت نشرَ هذا الطاعون؟، وأين الشريحة الكبيرة من تحصين الوطن منه ومن علاج خلاياه المصابة؟، ومتى يستطيع الوطن علاجها؟ وكيف يحصِّن الوطن ما لم يصب من خلاياه؟، أحسب أن تساؤلاتي هذه ستنعكس عليها ومنها إضاءات لما سأكتبه إجاباتٍ لها. سأعود إلى بداياتِ ظهور طاعون الفساد في الوطن باحثا عن أسبابه، فتحديدها سيكون منطلقاً للعلاج وللتحصين المأمولين، لن أحدِّد البدايات زمنيّا ومكانيّاً ولكنِّي سأحدُّدها منطلقاتٍ سببيَّة أدت لظهور الفساد فتوسُّعه وانتشاره، فالأمر يعود لإسناد الأدوار القياديَّة في معظم إداراتنا الحكوميَّة وفي مؤسَّسات المجتمع المدني لغير الأكفاء خبرة وتأهيلاً وخصائص نفسيَّة وقدرات إداريَّة، وما اختيار أولئك إلاَّ من مسؤولين أعلى في وزاراتهم لا يختلفون عنهم وبالتالي فهم يتحاشون اختيار الأكفاء فهؤلاء سيكشفونهم بقدراتهم ومهاراتهم وبدراساتهم، وهكذا اختار أولئك مساعديهم والقيادات الواقعة في دوائر أعمالهم من نفس الفئة؛ لأنَّهم سيحقِّقون لهم ما يحقِّقونه هم للمسؤولين الأعلى، وأتبعوا ذلك جهوداً لإقصاء الأكفاء وتهميشهم (الإدارات التعليميَّة ومدارسها أنموذجاً)، ومن هنا يبدأ الفسادُ الإداريُّ في الترشيحات والتكليفات والترقيات، ويتأثَّر بقاعدة إداريَّة يتداولونها مع وزاراتهم بأحقيَّة المسؤول بتكليف المتوافقين معه لانسجام العمل، ورحم الله الدكتور غازي القصيبي حينما اختار الدكتور عبدالرحمن الزامل وكيلاً لوزارته وبينهما من الاختلاف ما بينهما فكشفا تلك القاعدة الإداريَّة الخاطئة الفاسدة بنجاحهما معاً مجتمعين ومنفردين. وفي ظلِّ ذلك الوضع الإداريِّ المنطلق منه الفساد الإداريِّ ظهر الفسادُ الماليُّ؛ فالمسؤولون غير الأكفاء في محيط به أكفاءٌ أولى منهم بأدوارهم اتَّجهوا لمكافأة مساعديهم ومعينيهم من المال العام بطرقهم المختلفة من ترقيات وانتدابات ودورات ودراسات عليا، مهمِّشين الأكفاء عن الترقيات والانتدابات والدورات ومواصلة الدراسات العليا كجزءٍ من الضغط النفسيِّ عليهم لتدجينهم أو لإخراسهم أو لإبعادهم من دوائر أعمالهم، وفي دائرة الصراع بين أولئك تحصيناً لمواقعهم وبين الأكفاء مطالبةً بحقوقهم وفرصهم لجأت قيادات من خلال نفوذها الوظيفيِّ وحمايتها من المسؤولين الأعلى ذوي المواصفات المشابهة لهم لتحريك أتباعهم لإثارة المشكلات والقضايا ضدَّ الأكفاء، بل ولجأ كثير منهم لإظهار أنفسهم بأنَّه الأفضل والأصلح للتزوير بالحصول على شهادات ماجستير ودكتوراة وهميَّة، وما اكْتُشِفَ أخيراً في جهاز وزارة التربية وفي إداراتها التعليميَّة شواهد تثبت توجُّهاتهم التزويريَّة، ولم يتجاوز موقف وزارتهم منهم إلاَّ منعهم بعضهم استخدامَ ألقاب شهاداتهم الوهميَّة؛ لأنَّ المسؤول الأعلى يحمي المسؤول الأدنى منه فمسارهما الوهميُّ مسار واحد. وحدث في سبعينيَّات القرن الميلادي السابق ضغوطات إداريَّة وعمليَّة من قيادات عليا تفتقد كفاءة القيادة ضدَّ أكفاء عادوا من بعثاتهم بشهادات ومؤهِّلات حقيقيَّة وبقدرات ومهارات فاعلة؛ لأنَّ العائدين سيشكِّلون مصادر لانكشافهم في أدوارهم وفي منجزاتهم الإداريَّة والعمليَّة والبحثيَّة؛ لذلك وقفوا ضدَّهم وضدَّ منجزاتهم، والحالة تتكرَّر الآن مع العائدين من بعثات مشروع خادم الحرمين الشريفين حفظه الله من ذوي المؤهِّلات العليا بالماجستير والدكتوراة، بل دفع أولئك قيادات تخشى على مكتسباتها الوظيفيَّة للحصول على الدكتوراة الوهميَّة، وهؤلاء المتسنِّمون قيادات غير قادرين عليها يستعينون بجوقات إعلاميَّة من أتباعهم ومن المستفيدين منهم أدواراً ومكافآت ماديَّة يقتطعونها لهم من المال العام ليلمِّعوهم ولينسبوا لهم منجزات وهميَّة تحاكي شهاداتهم الوهميَّة. وهؤلاء القيادات غير الأكفاء المحاصرون من أكفاء مهمَّشين يحسُّون بأنَّهم سيزاحون يوماً ما عن كراسيهم في عتمة منجزاتهم وتوسُّع إخفاقاتهم وكثرة مشكلاتهم؛ لذلك فهم يهتبلون توليهم مراكزهم فرصة ليحقِّقوا مكتسبات ماديَّة فيبدأون بنهب المال العام وأمثلتهم في تعليم حائل وتعليم القريَّات وتعليم المدينة، وفي أماناتٍ وبلديَّاتٍ وغيرها فساد لا يخفى على المواطنين المتضرِّرين وظيفيّاً وخدميّاً، ولذلك لن يُجْتَثّ الفسادُ الإداريُّ والماليُّ بمحاسبة أولئك في قضايا ينظر فيها لسنوات حتَّى تُنسى أو يعتادها الوطن والمواطن فتضعف طموحاتهما الإصلاحيَّة، إذاً لن يُجتثَّ الفسادُ الإداريُّ والماليُّ إلاَّ باختيار القيادات الأعلى من ذوي الكفاءات العلميَّة والعمليَّة والفكريَّة ليجتثُّوا المتسلِّقين الفاسدين، فهذا هو المدخل الحقيقيِّ للإصلاح، ونموذجه التوفيق في اختيار القيادات الوزاريَّة الوطنيَّة ذات الكفاءة التعليميَّة والعمليَّة كالدكتور توفيق الربيعة وزيرا للتجارة، والدكتور عبدالله الربيعة وزيراً للصحَّة، والمهندس عادل فقيه وزيراً للعمل، ومدير جامعة جازان الدكتور محمَّد آل هيازع وغيرهم ممَّن لم تحضرني أسماؤهم ممَّن استطاعوا بوقت وجيز تطهير وزاراتهم من المتسلِّقين الفاسدين وتحقيق منجزات وطنيَّة، ففي الوطن كفاءاتٌ مهمَّشة حينما أتيح لهم المجال حقَّقوا نجاحات رضي عنها الوطن والمواطن، وأحسب أنَّ الناعقين إعلاميّاً ضدَّهم ستختفي أصواتهم شيئاً فشيئاً كلَّما علت نجاحاتهم أصواتاً وإضاءات؛ فتكافؤ الفرص هو المدخل الحقيقيُّ لاجتثاث الفساد بشقَّيه، وليبدأ به في التعليم العام والتعليم العالي، فمتى ما تحقَّق ذلك في هاتين الوزارتين فسيُصَحَّح الشيءُ الكثير في الوطن، وستخرِّجان أكفاءً سيسهمون في عمليَّات التصحيح في الجهات الأخرى، وأختتم بتحيَّة للدكتور صالح الحمادي رافع راية الحرب على الفساد وعلى مواجهة الفاسدين.