« يذهبون في الجلطة » مجموعة القاص والناقد عبدالله السفر السردية «يذهبون في الجلطة» تنتظم تحت عنوان مغاير، فبخلاف المقدمة والملاحق، يبرز عنوان العمل الرئيس في مجموعتة القصصية «يزهر الهواء برائحة الياسمين»!! الذي انسل أحد عناوين القصص ليصبح عنوان المجموعة بأكملها. هذا التغيير في عنوان المجموعة، أتى ليتواءم مع أزمة وجودية عالجها القاص في مقدمة المجموعة والملاحق من خلال السرد وشعرنة المرض «الجلطة» والموت من حيث كونه «ذهاباً» وترقياً إلى منطقة تليق باستقبال من وفد إليها. كاظم الخليفة يضيق المعنى في بداية السرد وينغلق على عبارات لا يعيها القاص في حينها.. جلطة، سكون دماغي، موت، فيوسع العبارة سرداً حتى يعيد ترتيب الأحداث وفق ما يريد تصوره وليس ما حدث فعلا! صداع كان يجب أن يزول بحبة (اكسترا بندول)، ثم يعقبه موت!! ذلك ما لم يفهمه حتى وإن تماثل العارض الصحي مع حالات مشابهة لدى بعض الأقارب والأصدقاء، إنها الجلطة «تكمن الجلطة وتباغت» تتردد هذه الجملة في سرد القاص ويوردها بذهول، ثم يعود ويتصالح مع هذه المفردة، يؤولها إلى النيرفانا؛ حيث انعدام الألم وغياب المعاناة. «ذهب (أحمد) في الجلطة كما يذهب شيوخ قريتي، لم تعد (الجلطة) ذات رنين مخيف، الجلطة دقة استئذان تحملهم إلى الغيبوبة الأخيرة»، ثم العوم في نقطة العماء؛ حيث انعدام الزمن، ذلك هو ما يشير إليه عندما يستبدل مفردة الموت «لتعوم في النهاية»، وفي جملة أخرى «دخل في الليل، طواه المحاق»، يترك الموت يتوارى خلف تلك المفردات، وحتى في المقبرة، جسد الميت ليس أحمد، هاك هو باسم بل يجلجل المكان بضحكته، ثم يعود من جديد إلى الجلطة، يعاتبها ويلقي بثقل مشاعره وراءها؛ حيث الأحباب ذهبوا هناك، ولا يفصح عن كيفية عودتهم «لا يحمل إلا كتاب الأحزان، أفتحه على صفحة الجلطة يعوم فيها أبناءُ قريتي، ويلفظون الأنفاسَ حبراً أسود لا يفلح القلبُ في قراءته ولا على التصدي لأن يقلب صفحة..». ومن ناحية أخرى يتملقها وتصبح ضرورة من أجل تسريع عملية الشفاء في اعتلالات أخرى، هي ليست بذلك السوء «أحضرت الممرضة وسادة زرقاء محشوة بالرمل لأتكئ عليها بجانب صدري بغرض تسريع عملية التجلط خشية نزيف ما»!! فلماذا لا تكون رحيمة هناك؟ بقية النصوص القصصية تأتي في مرحلة تالية على الفقد، تنتزع كل ما تراكم من ألم وتعالجه، بمحاولات عدة، إلاّ أنه «يطفئ» الألم بطريقة غريبة عندما يكون طوفان الذكريات قد تجاوز اللامرئي إلى تجسد المحسوس وتمدده على ثنايا الروح: «لم يكن يريدُ اختبارَ الألم، عندما دسّ يده في الجمر. تلك كانت طريقته في إطفاء الصور. يريق الألم عليها حتى تخمد أنفاسها. وتعود، ثانية، إلى الغياب»، هذا هو في صحوه، لكن عندما يهرب إلى الحلم، سرعان ما يصبح على واقعه المرير حتى لا فكاك من الألم، «رأفت به ذات حلم، طافت به تبث الماء في غصن أيامه. راقهُ المنام، غير أن اليقظةَ امتحان عينين أكلتهما التجاعيد». تتخشب مشاعره، يعالجها من خلال العشق، معاناة من لون آخر، لجوء إلى منطقة عل صخبها يخرس أصوات ثكلى تنعي الفقد وتنشز في نشيجها، لكنه لا يجد له مكاناً حتى يستقر ويعشعش «يحنو عليه النوم، فيرخي عليه غلالةَ الأحلام. يعرف أنّ شمسَ العزلةِ لم تبقِ له بياضاً يخط عليه اسمها»!! لكنه يحاول ويستمر من خلال أحلامه «كثيراً ما يَركزُ رأسهُ في النوم؛ لأن شهوة العدوِ لا تواتيه إلا في الأحلام». فهل حقاً لا يستجيب للعشق؟! «تجرحُ بعبورِها صمتَ المقهى، يندلعُ في الأصابع المقبوضةِ كلامٌ، وفي الريقِ نظرةٌ لا يطفئها كأس»، وعندما تجتاحه العواطف وتجبره على الإصغاء «فقط يصغي، ويؤجل، يجمع نثار الشظايا، وينتظر صمغاً مواتياً. عندما دنت اللحظةُ بصمغها.. بعطرها وبوحها؛ انكسرت عيناهُ في وهجِ الشظايا. غام في الصمت؛ نعمته الأولى لا يريدُ التفريطَ فيها». ذلك ما يمكن جمعه من متفرقات سرد القاص «السفر» ووضعه في سياق وجه فيه القارئ؛ ليكشف من خلاله عن تجربته الروحية بعد سبكها في لون سردي تخاله شعراً لولا التوتر المستمر في النصوص واتكائها على الحكاية والخبر، في مقابل نصوص قصصية قصيرة تنطق مباشرة بالفكرة، وتلتزم بشروط القصة لابتعادها عن الرمزية والمفارقة الصارخة في الأولى (القصة القصيرة جدا). أخيراً.. يضع الأستاذ «السفر» القارئ أمام مجموعة نصوص تنافست فيها أشكال السرد وتنوعها، بين القصة القصيرة والقصيرة جدا والتناص على نصوص شعرية ومقالية، كلها شكلت ملحمة سردية بامتياز.