الانقسام في الرأي تجاه حادثة إنكار الشيخ المحتسب في سوق عكاظ، على الشاعرة التونسية جميلة الماجري إلقاءها الشعر أمام جمع الحضور، هو الوجه الأبرز للحادثة، الذي لا يمكن أن نفهمها دون الحسبان له. إجابة الشاعرة الماجري كانت استدلالاً نقضياً لدعوى الشيخ بالإشارة إلى إنشاد الشاعرة الشهيرة الخنساء الشعر للرسول «صلى الله عليه وسلم» واستزادته من شعرها: «هيه ياخناس!». وقد ورد خبر الخنساء هذا في مصادر مختلفة، مقترناً بذكر وفد قبيلتها «بني سليم» إلى الرسول، وإسلامها في عام الوفود أي العام التاسع للهجرة. أما إنكار الشيخ على الشاعرة الماجري فيستند إلى الرأي الفقهي الذي يذهب إلى تحريم الاختلاط؛ والاستدلال بقصة الخنساء هنا موضع تخريج من أنصار رأيه، بوجوه أبرزها: إنكار الحادثة من أساسها، أو تضعيف روايتها، أو إحالتها على زمن سابق لنزول الحجاب. وليس من قصدنا هنا، أن نفاضل بين الرأيين، وأن ننصر أحدهما على الآخر، لأن قصارى ما يؤول إليه الأمر في هذا الحجاج هو الإحالة على «اختلاف» فقهي، وهو اختلاف يجاوز الاستدلال فيه إنشاد الخنساء الشعر للرسول، إلى نقولٍ استدلالية أخرى للرأيين، بحيث يصبح الرأي الذي تحتج به الشاعرة الماجري رأياً معروفاً فقهياً. لكن المسألة هنا تجاوز الاختلاف الفقهي الذي هو طابع الفقه الإسلامي منذ الصحابة، إلى «الفرض الفقهي». والفرض الفقهي يعني إقصاء كل رأي مختلف، ونفي حججه واستدلالاته، وحصرها عليه وحده. والنتيجة لا تنتهي إلى فرض رأي واحد وجَمْع الناس عليه، بل -إلى العكس من ذلك- التصادم بين الآراء وحدَّة الانقسام بينها وتوتُّره. ما قاله الشيخ المحتسب أكثر ألفة لنا ولأبنائنا وبناتنا، مما قالته الشاعرة الماجري وغيرها ممن استدلوا على رأي مختلف عن رأي الشيخ. وذلك لأننا نشأنا في ظل الرأي الفقهي الذي قال به الشيخ المحتسب؛ تعلمناه في مدارسنا، وتلقَّناه في مساجدنا، ولم يكن القول بخلافه -مع الأسف- إحالة على مذاهب فقهية، أو على آراء ضمن المذهب الفقهي الواحد في الفقه الإسلامي، بل إحالة على المعاداة للإسلام والمناهضة له والجهل به وإرادة التحلل منه والمروق عليه. لذلك فإن نفي معالي الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الدكتور عبداللطيف آل الشيخ، وجود مخالفات شرعية في فعاليات «سوق عكاظ» دلالة شرعية مهمة في هذا السياق. وهي دلالة ينبغي تأكيدها في مواجهة تيار «الفرض الفقهي» لما من شأنه أن يكون موضوع «اختلاف» لا خلاف. الفرض للرأي الفقهي، بالمعنى الموصوف أعلاه، فهم أحادي لا يحتمل رأي غيره –لديه- الصواب، ولا يحتمل رأيه الخطأ، على عكس وصف الإمام الشافعي لرأيه الفقهي. وهو هكذا قراءة متشددة للدين تستحيل إلى معدن للتطرف والعنف الذي يظهر -أول ما يظهر- في لغة الاتهام والطعن والقذف والسباب تجاه المختلف. وإذا كان سفيان الثوري قد رأى في التشدد علامة ضيق الأفق وقلة العلم، حين قال: «إن التشدد يحسنه كل أحد» فإن المسألة تبدو معكوسة لدى كثير من أنصار التشدد، قديماً وحديثاً، فهو لديهم الأحوط والأتقى والأكثر غيرة وسداً لذرائع الفتنة والفساد التي لم يتنبه إليها الأئمة والعلماء الأكثر جدارة بتلك الصفات منهم! أما إذا التفتنا إلى العلاقة بين التشدد الديني والأيديولوجيا فإن البراءة منه تبدو مستعصية طالما ظل الدين مطية سهلة للمنفعة!