في خبر عن أول أيام مهرجان سوق عكاظ في الطائف جاء فيه: (هاجم أحد المحتسبين مساء أمس الشاعرة التونسية «جميلة الماجري» بينما كانت تقرأ قصائدها أمام جمهور مهرجان سوق عكاظ، في أول فاعلية تنطلق ضمن برنامجه الثقافي، وطالب المحتسب بنزولها من المنصة، الأمر الذي دفع المنظمين ورجال الأمن للتدخل وإخراجه من الخيمة). وعلق المتحدث الإعلامي لإمارة منطقة مكةالمكرمة سلطان الدوسري قائلاً: (إن معلماً تابعاً لوزارة التربية والتعليم اعترض على مشاركة الشاعرة جميلة الماجري خلال مشاركتها في سوق عكاظ). وأضاف: (إن فعاليات السوق تخضع لمتابعة من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الجهة صاحبة الصلاحية). المعلم، أو على الأصح (المشاغب) الجاهل هذا، مارس تعدّيه على صلاحيات الدولة تحت مسمى (الاحتساب)، حيث يُمارس عوام الناس فرض اجتهاداتهم (بالقوة) وكأنهم دون غيرهم (وكلاء) الله في أرضه، وبالتالي فإن الدولة وأجهزتها وعلماءها ومؤسسات الحسبة فيها يجب أن تخضع لاختياراتهم الفقهية المتشددة، فإذا كان - مثلاً - هناك رأيان، رأي معين يقول بجواز فعالية معينة، والرأي الآخر يقول بعدم الجواز، فالمحتسب المتطوع، وليس أجهزة الدولة الخاضعة لولي الأمر الشرعي، هو من يُقرر، ويختار الرأي الفقهي الأنسب، ثم يأمر، وطالما أنه (محتسب متطوع)، يتكلم بقال الله وقال رسوله، وملتحٍ، ويرتدي (مشلحاً)، ويتعطر (بدهن العود)، فقد امتلك كل مؤهلات (الوصاية) على المجتمع. وليس على الجميع إلا الانصياع لأوامره. بهذا المنطق المغرق في (الحركية) مارس هذا المعلم المشاغب تَعديه على صلاحيات أجهزة الدولة، التي لا يمكن أن تكون إلا في حالة واحدة فقط وهي (غياب الدولة) مثل ما يجري الآن في أفغانستان؛ حيث يقوم أعضاء حركة (طالبان) بالسلطة الموازية للدولة، انطلاقاً من أنهم - دون غيرهم - وكلاء الله هناك، وهذا غاية ما يطمح هؤلاء الحركيون إلى تحقيقه. أن تُلقي امرأة قصيدة، أو كلمة، أو أن تدلي برأيها أمام الرجال في محفل، أو أن تشارك كعضو في مجلس برلماني أو شوري، أمرٌ لا يلغيه إلا الفكر المتشدد المتزمت، الذي يبدو أن هذا المحتسب المشاغب ينتمي إليه. وهناك حادثة مشابهة تماماً لهذه الحادثة ذكرتها مدونات السير والتراجم، عن الصحابية الجليلة الشاعرة (الخنساء) عندما وفدت مع قومها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. تقول الرواية كما ذكرها «ابن حجر العسقلاني» في كتابه (الإصابة في تمييز الصحابة): (قال ابو عمر: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم مع قومها من بني سليم، فأسلمت معهم، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستنشدها ويعجبه شعرها، وكانت تنشده وهو يقول: «هيه يا خناس» ويومئ بيده). كما ذكرها «ابن الأثير» في كتابه (أسد الغابة)، وكذلك «ابن عبد البر» في (الاستيعاب)، وغيرهم كثير ممن كتبوا عن السيرة والصحابة. وابن حجر هو شارح صحيح البخاري، وهو علم من أعلام علم الحديث، إضافة إلى علمه في التاريخ والسير. «عادل الكلباني»، وهو إمام أحد المساجد في الرياض، غرّد في تويتر قائلاً عن قصة الخنساء عندما ذكرتها رداً على تصرف هذا المحتسب الجاهل: (هيه يا خناس ذكرها ابن عبدالبر ولم «يسندها» فلا تقوم بها حجة)! وقد رجعت إلى كل من ذكروها فلم أجد لسندها بالفعل تخريجاً، غير أن ما يُرجح أنها صحيحة وثابتة أن من أوردها بالنص التي ذكرت هو «ابن حجر العسقلاني» شارح صحيح البخاري، ولو لم يوردها إلا العسقلاني لكفى دليلاً موثوقاً على صحتها فكيف إذا انتشرت وتواترت وذكرها كل هذا الجمع من أصحاب السير والتراجم؟.. ثم إنك إذا رفضت رواية تاريخية أثبتها علمٌ كابن حجر فأنت لا تُمارس (وصاية) على ابن حجر (المحدث) فحسب، وإنما تُشكك في أغلب أعماله الفقهية والحديثية حتى يذكر لها سند، ولو أسند كل رواية تاريخية لاحتاج تاريخنا كله إلى إعادة صياغة من جديد تحت هذه الشروط المتطرفة. ثم إن القضية هي - على الأقل - (خلافية)، والقاعدة الأصولية المرعية في القضايا الخلافية تقول: (حكم الحاكم يرفعُ الخلاف)، والمهرجان أقره ووافق على فعالياته الحاكم الإداري، المخول من ولي الأمر، لمنطقة مكةالمكرمة، فيجب حسب هذه القاعدة الفقهية أن تُذعن أنت وصاحبك لما اختاره الحاكم. المضحك في الموضوع، وشر البلية ما يُضحك، أن (الكلباني) غرّد (معترضاً) على الاحتجاج بالخنساء في تويتر قائلاً بالنص: (والخنساء رضي الله عنها لا تصلح حجة لكم أيضاً، فقد قدمت أبناءها الأربعة شهداء في القادسية)؛ كذا ورب البيت !. هذه التغريدة (الغبية) ذكرتني بأحد السلفيين (الحركيين) المصريين، عندما احتج عليه أحدهم بمقولة لابن تيمية - رحمه الله - فاستشاط غضباً، وقال: (ابن تيمية دا بتاعنا مش بتاعكو)؛ فالخنساء وتاريخ الخنساء (بتاعة) السيد الكلباني، هو (وربعه) فقط من يستشهدوا بها وبتاريخها وليس (الآخرين)، والآخرون في معايير السيد الكلباني هم نحن؛ تصوروا ! وختاماً أقول: إن تصرف هذا المحتسب الجاهل، و(استماتة) الكلباني في الدفاع عن مشاغبته، يدل على ما كنا نقوله ونردده ومؤداه أن السكوت عن هؤلاء، وعن شغبهم، والتغاضي عن تدليسهم، وانتقاءاتهم (للأدلة) وتوظيفها لمصلحتهم، ثم إصرارهم على أن يُعيّنوا أنفسهم دون الآخرين (وكلاء الله في أرضه) كما جاء ضمناً في تغريدة الكلباني الأخيرة التي تكتظ - دون أن يعي طبعاً - بالثقافة الكهنوتية، سيؤدي بنا إلى ما لا تحمد عقباه؛ وما أفغانستان، ثم مصر وتونس وليبيا وأخيراً سوريا، عنا ببعيد. إلى اللقاء