حدثتني عمتي -حفظها الله- أن والدتها -رحمها الله- كانت تضع اشتراطاتها على من يزورها من الأقرباء والأصدقاء أن يتخلى عن كل معداته التقنية والحضارية قبل دخوله بيتها، كانت تمنع دخول (أيفون، آيباد، وحتى بلاكبيري) أو الحاسوب إلى مكان إقامتها، فقد كانت ترى تلك المرأة البدوية المتواضعة في علمها والحكيمة في فكرها أن سماحها بدخول تلك المعدات لبيتها غزو لا بشري يقضي على ما تبقى من أواصر إنسانية، فعقدت عزمها بعد تفكير طويل ووضعت لائحتها التي تمنع من خلالها كل ما يمكن أن يحول دون تواصلها بيسر مع من حولها، فالأقرباء محط ترحاب في بيتها لكن «مذنق الرووس» كما كانت تسميه يمنع اصطحابه إلى دهاليز بيتها، فهي كانت تنتظر بفارغ الصبر رؤية ملامح وجه من يزورها بين وقت وآخر، وتأمل أن ترى وميض أعينهم فرحا برؤيتها لا انعكاسات الإشعاعات المتسربة من أجهزتهم وانحناءات ظهورهم، كانت تدرك أن التواصل البشري لا يقف على ترداد الكلمات الجوفاء والحضور المكاني، وأن اختلاس النظر والتعبير الجسدي جوهر الانسجام والتقدير مع كل حديث، لم تكن تدرك حينها -رحمها الله- أن تلك الاشتراطات المتعسفة قد تصبح «الإسفين» الذي يقضي على فرص زيارة الأقرباء لها، والمبرر المنطقي لتقليص ساعات زيارتهم لها، كانت تتوسم في قراراتها الجريئة بمنع التقنية أن ترتفع رؤوس من حولها متحولة باتجاهها، لترى حرص من حولها على التمتع برؤية كل تعبير من تعبيرات وجهها، والتمتع بمشاهدة ابتسامتها الطاهرة على وجهها، لكن كما يبدو أن مراهنتها على إمكانية تطويع الآخرين في هذا العصر لم تكن في محلها، فكما يبدو أن «مذنق الرووس» كما أسمته، قد أكل وشرب بعقول البشر حتى أصبح البديل الذي يغني عن أي حاجة للتواصل بين الأقرباء. فشعار «مذنق الرووس» الذي رفعته والدة عمتي لم يعد له أي مفعول الآن في ظل ما نراه من خضوع واستسلام للأجهزة، فالطوفان التقني الذي بدأ منذ عدة سنوات قد جرف -مع الأسف- الغالبية العظمى من البشر، حتى كادوا لا يرون أولئك القلة من الأقرباء والأصحاب ممن ما زالوا يأملون بتبادل الكلمات والنظرات والابتسامات، مؤمنين أن الحوار المتكامل الذي تتعاضد به لغة الكلام والجسد مسك التعامل البشري الراقي وإظهار حقيقي للتقدير والحب للآخر.