خليل علي سلط زوال حكم «الإخوان المسلمين» في مصر، 3 يوليو 2013، أضواء قوية على امتدادات الحزب في العالم العربي، وفي بلدان مجلس التعاون الخليجي على وجه الخصوص. لا بسبب الارتباط العقائدي بين إخوان مصر والإخوان خارجها فحسب، بل وكذلك لأهمية الدور الذي قام به الإخوان الخليجيون ودولهم أحياناً في دعم وتمويل الحركة داخل مصر وغيرها. يضاف إلى هذا كون الحركة في مصر بمنزلة «أمّ مرشدة» لبقية الجماعات، وصاحبة التجربة الأولى للإخوان في حكم بلد عربي محوري مثل مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، ولأهمية نفوذ بعض أحزاب الإخوان سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في دول خليجية كالكويت والبحرين. ورغم كل الإرباك الذي سببه وصول الإخوان إلى السلطة في مصر، والمخاوف الواسعة التي أثارتها في المنطقة علاقات مصر والإخوان مع إيران، وكذلك الاتهامات التي راجت ضد نيات الإخوان الانقلابية والاعتقالات التي جرت بعد الإعلان عن اكتشاف مخططات للإطاحة ببعض الأنظمة الخليجية، إلا أنه من المستبعد حتى هذه اللحظة وجود رؤية خليجية موحدة إزاء الأوضاع في مصر عموماً، أو موقف مشترك إزاء خطر أفكار وأهداف ونشاطات الإخوان على وجه التحديد. ومن معوقات هذا الإجماع تعدد مصالح دول المنطقة وطبيعة علاقاتها الإقليمية، كما أن لجماعة الإخوان المسلمين في بعض البلدان الخليجية تاريخاً سياسياً يمتد ما بين ستين عاماً وأكثر. فقد ارتبط مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا بصلات وثيقة مع المملكة العربية السعودية منذ «المؤتمر الإسلامي» الذي عقد عام 1926، وازدادت العلاقة وثوقاً بسبب حرص الشيخ البنا على أداء شعائر الحج سنوياً ما بين 1936-1948. وتوسعت العلاقة السياسية مع اصطدام ثورة يوليو بالإخوان بعد ثورة 1952 في مصر وخلال سنوات «الحرب الباردة العربية» ما بين 1954 – 1967. ولا شك أن الإخوان قد استفادوا مادياً وسياسياً خلال هذه السنوات ومدوا نفوذهم إلى أبعد المجالات كالتعليم والإعلام وغيرهما قبل أن تكتشف المملكة وقادتها خطورتهم بعد أحداث غزو الكويت وحرب 1990. وفي الكويت والبحرين، قابل مؤسسا جمعيتي «الإرشاد الإسلامية» في الأولى، و»الإصلاح» في الثانية عبدالعزيز المطوع وعبدالرحمن الجودر، المرشد حسن البنا شخصياً في الحج وفي مصر خلال أربعينيات القرن، واستقبل البلدان بعد 1954 كثيراً من كوادر وقادة الإخوان المصريين والسوريين وغيرهم. ومن المعروف أن جماعة الإخوان قد لعبت دوراً سياسياً بارزاً في هذه الدول خاصة في مرحلة الصراع مع التيار القومي واليساري، ولا تزال بعض الدول الخليجية غير قادرة أو ربما غير راغبة في الاستغناء عن هذه الجماعات، خاصة في مجالات دينية وسياسية وتعليمية وغيرها، مهما كانت درجة انزعاجها السياسي منها، ومهما ازدادت الضغوط الخارجية على مسؤولي هذه الدول. وبعكس التيارات القومية واليسارية، استطاعت هذه الجماعات أن تستفيد استفادة قصوى من علاقاتها مع النخب الخليجية الحاكمة ومن أجهزة الدولة، وبخاصة منذ ارتفاع أسعار النفط وتعاظم الثروة النفطية بعد 1973، التي سهلت كذلك تأسيس «المصارف اللاربوية» و«الشركات الإسلامية» وغيرهما، فامتد نفوذ الإخوان الخليجيين والعرب والدوليين بقوة إلى المجال الاقتصادي والتمويلي في الداخل والخارج، بل أجبروا في النهاية خلال السنوات العشر الأخيرة حتى البنوك الخليجية الراسخة، على فتح فروع «إسلامية». كما أن نشاط الإخوان الداخلي امتد إلى مختلف المجالات، وقامت بتأسيس كثير من الجمعيات الإسلامية والنشاطات والهيئات. ومن المؤسف أن أقسام العلوم السياسية أو الاقتصادية في المنطقة ومراكز الأبحاث الخليجية، لا تدرس على نحو كافٍ وعن قرب حركة ضخمة ومؤثرة عميقة النفوذ كالإخوان المسلمين، ذات امتدادات خليجية وعربية واسعة. فنحن لا نعرف اليوم على وجه الدقة، خارج التوصيف والتوثيق العام والعابر حجم ومصالح هذه الجماعات، والإدارات الحكومية والشركات التي تهيمن عليها والصراعات التي تدور فيها، وما إذا كانت ثمة تضارب في المصالح بين وظائف بعض المسؤولين الرسميين وعضويتهم في مؤسسات الإخوان أو «اللجان الشرعية» لبعض بنوكها وشركاتها، التي تدفع رواتب مجزية بسبب ما يقال عن نقص في عدد شيوخ الدين الاقتصاديين ممن درسوا «الاقتصاد الإسلامي». لا يمكن إذن تحقيق موقف خليجي موحد بعد أحداث مصر إزاء جماعة الإخوان في الخليج. وقد ترحب دول كالمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بالتصدي الجاد لنفوذ الإخوان وتقليص نشاط جماعاته لأدنى حد. ولكنك لن تجد نفس الحماس في الكويت، حيث الحركة بالغة القوة والانتشار، وفي مملكة البحرين، حيث تحيل الظروف السياسية والانقسامات الطائفية دون عزل الإخوان أو تضييق الخناق عليهم. وحيث تقف سلطنة عمان على الحياد بعض الشيء، فإن موقف دولة قطر معارض حتماً لأي ضغوط خليجية مؤثرة في هذا المجال.. ومما يزيد من قوة وانتشار الإخوان في بلدان مجلس التعاون استفادتها المنظمة من العلاقات الاجتماعية والأسرية والقبلية المؤثرة بقوة في النسيج المجتمعي، وكذلك من الإخوان غير الخليجيين بما يملكون من خبرات تنظيمية أو مكانة دينية وخبرات علمية وقانونية. كما تبين من بعض المقابلات الصحفية التي أجريت في الصحافة الكويتية مع القيادي الإخواني المنشق، (ثروت الخرباوي، وجود تنظيمين للإخوان في دولة الكويت: الأول هو تنظيم مصريين مقيمين في الكويت، وهو تنظيم قوي وقائم وكبير للإخوان، وله أفراده وله مسؤولون ويمارس نشاطه بعيداً عن الشخصيات الكويتية، وهذا التنظيم تابع للتنظيم في مصر. أما التنظيم الآخر فهو للإخوان في دولة الكويت ويضم الكويتيين). جريدة الوطن الكويتية 2013/1/14م. ومما ساعد ولا يزال على تغلغل الإخوان المسلمين في البيئة الخليجية ومنها الكويت، حرص الإخوان على تقديم أنفسهم للأوساط الاجتماعية المحافظة وللعائلات والأمهات الحريصات على أبنائهن، وللدولة، كجماعة معتدلة «وسطية» خليجية تنبذ العنف والتشدد الديني. ويعلم الجميع أن الإخوان لا يلغون العنف مبدئياً من أجندتهم السياسية، كما رأينا في تاريخهم وصراعات التنظيم السري وموقفهم من الانقلابات وغير ذلك، بل يؤجلون اللجوء إليه إلى أن تكون موازين القوى لصالحهم، كما أمرهم المرشد البنا في رسائله. فالإخوان لم يجدوا بأساً في انقلاب المشير عمر البشير في السودان عام 1989، ودافعوا قبل ذلك بحرارة عن النظام الإسلامي الشرعي الذي تظاهر به الجنرال جعفر النميري. وفي الكويت نقلت صحيفة «القبس» المعروفة عن أحد الشيوخ المعروفين في تيار الإخوان د. عجيل النشمي «أن أول الدروس من إسقاط العسكر في مصر للرئيس مرسي هي تغلغل الإسلاميين في القضاء لضمان نزاهته». (2013/7/6). ولا نعرف بشكل موضوعي وعلى وجه التحديد نصيب تيار الإخوان والجماعة السلفية من مجالات الهيمنة السياسية والمالية في الكويت وغيرها. ومن المعروف أن الإخوان المسلمين انفردوا بالنشاط الإسلامي المنظم السياسي والمالي والاجتماعي لسنوات طويلة، واشتدت هيمنتهم وقوتهم بعد 1970 مع انحسار التيار القومي، فتعاظم نفوذهم تدريجياً في الحياة الاجتماعية والنشاط الطلابي ومجلس الأمة والمؤسسات المالية. وبالرغم من منافسة التيار السلفي لهم في هذه المجالات، وفي مجال الجمعيات التعاونية وما يسمى بالعمل الخيري والنشاط الدعوي، وفي الهيمنة على وزارة الأوقاف وما تدير من أموال وعقار، فإن نفوذ الإخوان باقٍ، فيما شهدت الحركة السلفية عدة جماعات منذ بروزها عام 1981 ممثلة في «جمعية إحياء التراث». ولا ينحصر نشاط الإخوان في الجسم الحزبي المنظم من الجماعة، فهناك بعض «المستقلين» الذين يسيرون في ركابها من القيادات السابقة ممن يوظفون علاقاتهم وخبراتهم لخدمة مصالح الجماعة. ويحاول هؤلاء منذ فترة ليست بالقصيرة مثلاً تدريب الكوادر الوظيفية الجديدة والشابة من الكويتيين، وذلك بإقامة «الدورات الإدارية»، والندوات والورش والمحاضرات في مختلف المجالات، التي تبدو في ظاهرها تحديثاً للإدارة والدولة، بينما ترسخ في الواقع نفوذ الإخوان وتمد مصالحها وتزرع مزيداً من عناصر الجماعة في أركان أجهزة الدولة. وقد امتد نفوذ الإخوان والإسلام السياسي منذ فترة إلى العمل في الوسط النسائي. ومن مفارقات الواقع الكويتي مثلاً معارضة كل من جماعتي الإخوان والسلف لدخول المرأة إلى مجلس الأمة –البرلمان- لموانع اعتبروها شرعية واجتماعية. ولكن ما إن نالت المرأة الكويتية حق الترشيح والانتخاب لعضوية المجلس حتى تنافست الجماعتان في كسب ودها ونيل أصواتها، وتزاحمت «الخيام النسائية»، في كل المناطق. وكان الإخوان قبل ذلك يعارضون حتى ضغوط الإخوان المصريين ونداءات الشيخ «القرضاوي» الذين أبدوا استغرابهم من موقف الإخوان الكويتيين، الذي كانت تمليه في الواقع مصالح تنظيمية لا علاقة لها بالحلال والحرام. لقد حاولت فيما تقدم من المقال أن أبين بعض مجالات التأثير والقوة لجماعة عقائدية منظمة في مجتمعات ودول خليجية لا تزال تسودها صراعات مختلفة بين المحافظة القبلية والحداثة العصرية. والآن عن تأثير «سقوط الإخوان في مصر» وتأثير ذلك على حركة الإخوان في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي؟ وهل سيكون للإخوان اليمنيين والعراقيين دور في المراحل القادمة؟ وهل ستتعمق من جانب آخر العلاقات بين الإخوان وإيران وبخاصة أن وجدت الجماعات الخليجية والعربية نفسها في مأزق استراتيجي؟ من المعروف أن الإخوان لم ينجحوا دائما في توحيد مواقفهم من الأحداث. ولقد شهدت الحركة تفاوتاً علنياً في الموقف من الحرب العراقية الإيرانية (1980/1988) التي لم يتحمس لها الإخوان في العراق بينما ساند الإخوان السوريون والأردنيون الرئيس صدام، فيما وقف الإخوان المصريون موقفاً متوسطاً. وتكرر انقسام الإخوان عام 1990 بعد غزو الكويت، فيما عارض الإخوان في الكويت الجهود والتسهيلات الكويتية لإسقاط نظام صدام سنة 2003. ويشير بعضهم إلى تأثير «التنظيم الدولي» للإخوان وموقفه المحتمل بعد أحداث مصر الحالية، وما قد ينجم عن تحركه من ضغوط على إخوان البلدان الخليجية. غير أن هذا التنظيم الدولي كان يعاني من التفكك لأسباب داخلية، وتقول بعض المراجع إنه جرى إهماله تحت وطأة الحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي على الإرهاب والتنظيمات العالمية. (انظر: تحولات الإخوان المسلمين، حسام تمام، القاهرة، القاهرة 2010، ص 40). وتبدو جماعة الإخوان مؤهلة تماماً للاستفادة من إيران وتركيا على حد سواء في المستقبل المنظور، كما لم يتضح حتى الآن الموقف الأمريكي من مستقبل حركة الإخوان في مصر بعد إسقاط د. محمد مرسي، ولا شك أن لموقف الولاياتالمتحدة تأثيره الخليجي كذلك. إن جانباً من خطورة جماعة الإخوان يتجلى في قدرتها على المناورة السياسية والالتفاف المفاجئ وطرح مختلف الشعارات. وقد رأينا في التجربة المصرية مثلاً تصريحات إخوانية حول عدم النية في الترشح لرئاسة الدولة وعدم الرغبة في الهيمنة على البرلمان. والأخطر من هذا أنها تتحرك في منطقة دول مجلس التعاون ضمن أنظمة سياسية، بعكس دول عربية أخرى، غير مُعسكَرة وغير مُعدّة للصراعات الأيديولوجية، ولا ترفع حكوماتها إلا الحد الأدنى من الشعارات! لقد أظهرت تجربة سيطرة الإخوان على مصر، الدولة العربية البالغة الأهمية والكبيرة التأثير، كثيراً مما يمكن أن تدرسه دول مجلس التعاون الخليجي ومتخذو القرار فيها لحماية مجتمعاتها الناشئة والمستقرة من التشدد الديني والتهييج السياسي والمعنى في مسيرة الحريات والانفتاح الاجتماعي. * كاتب وباحث كويتي