يبدو أننا لا نستفيد من تجاربنا ولا نتعلم من دروسنا السابقة، فأخطاؤنا التي حدثت إبان حرب أفغانستان والعراق والحوثيين لا تزال تتكرر وتزكم أنوفنا برائحتها المُنتنة. فالمشهد السوري ومنادات بعض الخارجين عن (الذوق) الوطني وقرارات وأوامر (ولي الأمر) في هذا البلد المحروس، بالجهاد وإرسال (الشهداء)، وتأليبهم الرأي العام بعد ضخ العصبية الدينية والمذهبية في خطبهم (العصماء) ومن على منابر المساجد، بينما هم يستمتعون بأجواء الصيف في شوارع كرومويل في لندن والشانزليزيه في باريس أو كونفيديراسيون في جنيف ومراكزها الإسلامية التي تدفع لأولئك (الدعاة) بالدولارات، لا يمكن وصفه إلا بالحمق وعدم الالتفات إلى الأمن الوطني للمملكة. أولئك (المتورطون) الذين لا يمكن وصفهم كما يطلقون على أنفسهم بالدعاة، على الجهات المختصة والأمنية إيقافهم عند حدِّهم وإسكاتهم، خاصة أنهم دسُّوا السم في العسل بخطابهم العنصري لتصفية الحسابات ما بين سُنة وشيعة بعد إدخالهم عُنوة ورقة التعبئة الطائفية التي تجري على خلفية النزاعات السياسية. لقد تناسى أولئك بقصد أن إيران كنظام -الذي لا شك أننا نختلف مع سياسته في فرض عضلاته على دول الجوار- لا تمثل الشيعة، كما أننا (هنا) لا نمثل إلا وطننا فقط بكامل نسيجه الاجتماعي. إن إعطاء ما يحدث في سوريا بُعداً طائفياً (سني – شيعي) يمثل خطراً على الوطن وتعدُّده المذهبي الذي يجب أن نحافظ على سلامته مهما اختُلف في وجهات النظر أو حتى عقائده وبُعده الإثني. إن هيئة كبار العلماء ووزارة الشؤون الإسلامية مطالبتان بأن يكون لها دور أكبر في (فرملة) أفكار دعاة الفتنة والعنصرية، وإيضاح موقفها المتوافق مع السلطة السياسية التي لا ترضى بزعزعة أمن هذا الوطن والتفرقة لأي سبب بين أبنائه وطوائفه. علينا -كما قلت سابقاً- أن نتجاوز الهاجس (العرقي)، وفي الوقت نفسه ألا ينظر من يعتقد أنه (الآخر) إلى نفسه دون (كلية الموقف) فيما يخص شعوره بالاضطهاد والظلم اللذين عادة ما يرافقان الأقليات في سلوكهم العام. إن الإسلام يقرر أن الانتماء إلى الأمة الإسلامية لا يُلغي انتماءهم إلى الأرض (الوطن)، كما أن الإسلام يقوم على الجمع بين الوحدة والتعدُّد على المستويين التكليفي والتكويني، استناداً إلى مفهوم الوسطية. وطبقاً لهذا أقر بالتعددية على المستوى التكويني بإقراره التعدد كسنة إلهية «وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً» (المائدة: 48)، كما أقر بالتعددية على المستوى التكليفي بإقراره تعدُّد الشرائع، ولذلك فإن فرض طائفة ما سُننها على طائفة أخرى أو الاستهزاء بها وتأليب الرأي العام عليها ونقد مقدساتها لا يعدُّ نمطاً صحيحاً في المواطنة. إن المواطن الراشد مطالب ضمن (ميثاق) الوطنية بإقصاء التبعية للموروثات والمرجعية (الإثنية) إذا لامست انتماءه للأرض، وأن تكون لديه القدرة على تقييم الأفكار الموروثة، واتباع الصالح بوعي كامل، حتى لا تصبح تلك الموروثات والمرجعيات عقبة حقيقية في سبيل تحقيق المواطنة. إن انتعاش عوامل المساواة والشورى والمحافظة على الأجيال والعمل على التسامح سيُوجِد مجتمعاً يؤمِّن حق الإيمان بالمواطنة، وهذا ما نستشعره في عهد عبدالله بن عبدالعزيز. إننا بحاجة الآن إلى إعلام واعٍ يُسهم في تغيير الموقف والاتجاه نحو المفهوم الحقيقي للمواطنة، بعيداً عن مس (المقدسات) لأي فرد ينتمي (للأرض)، وإيجاد معاني التسامح على منابرنا الثقافية والدينية والمدرسية من خلال الوزارات المعنية في تلك المجالات، إضافة إلى الدور الأكثر أهمية في ذلك (التأصيل) لهيئة كبار العلماء الذين نثق بهم وبفكرهم، والذين أيضاً يقع على عاتقهم سد (الفجوات) لمن يحاول مس (الوطن) بسوء من خلال التأكيد على قبول الجميع في جغرافية. نحتاج أيضاً إلى مؤسسة للحوار الوطني تقوم بدورها الحقيقي بعيداً عن الشعارات والمؤتمرات التي لم تقدم شيئاً على أرض الواقع ولم تنفذ (روشته) فاعلة في كيفية التعامل مع التنوع الثقافي والديني والمذهبي والعرقي، لتُحدث تغيراً حقيقياً في (عقليات) عامة هذا الوطن باختلاف مذاهبهم، وتوعيتهم بحصر الخلافات السياسية ضمن إطارها السياسي والنأي عن إعطائها بُعداً مذهبياً طائفياً. وفي الوقت ذاته نحن بحاجة إلى جامعات ومعاهد وكليات (متزنة) تضخ لنا جيلاً جديداً من الدعاة (الحقيقيين) الذين يؤمنون بأن التنوع المذهبي والديني هو سنة الله في أمته (الإنسانية)، ومطلبٌ مهم للثراء المعرفي وتأصل الفضاء الحقيقي للحضارة الإسلامية، وتعاملها مع التعدد والتنوع القائم على قبول (المختلف) باعتباره من سنن الفطرة الإنسانية وصيغة للتعايش والتواصل الحضاري الإنساني.