ثمة مقاربات كبرى بين صفات وأحداث التاريخ الماضية والحالية ولربما المستقبلية أيضا. كنت أقرأ دراسة أو مؤلف روث بنديكت «زهرة الكريزانتيم والسيف»، وهي دراسة في الثقافة والشخصية اليابانية. وتعد هذه الدراسة من أهم الدراسات التطبيقية في سوسيولوجية الثقافة. وكان لها قيمة كبيرة في بلورة السياسة الأمريكية في حرب اليابان. إذ أظهرت هذه الدراسة صورتين متناقضتين متباينتين لكنهما متناغمتان أيضا في الثقافة اليابانية. روث بنديكت أمريكية متخصصة فى الأنثروبولوجيا الثقافية. وبفضل دراساتها ومؤلفاتها انتُخبت رئيساً لجمعية الأنثروبولوجيا الأمريكية، ورئيساً للجمعية الأمريكية للتراث الشعبي. أما الأنثروبولوجيا فكما تعرفون هي علم يبحث فى الإنسان والحضارة، منذ أن كان كائنا بدائيا. ومن هذا العلم فرع اسمه الأنثروبولوجيا الثقافية وهو يبحث عادة في عادات وتقاليد الشعوب المتخلفة، إلا أن روث تجاوزت ذلك إلى دراسة الشعوب المتقدمة أيضا. في يونيو 1944 طلبت الاستخبارات الأميركية من روث التفرغ لاستكشاف الثقافة اليابانية وسيكولوجية الشعب الياباني. وذلك بدعوى أن اليابان عدو يستحق الدراسة لاكتشاف كثير من جوانبه لمواجهته بالأسلحة المناسبة، ومن ثم التعامل معه كما ينبغي. بدأت الباحثة روث بإجراء لقاءات وحوارات مع اليابانيين المهاجرين إلى أمريكا قبل الحرب، ومع اليابانيين الذين أصبحوا أسرى حرب فيما بعد. وتابعت الأفلام اليابانية أو المتعلقة باليابان، وقرأت مؤلفات جمة عنها، حتى انتهت إلى تأليف كتاب عن مشاهداتها وقراءاتها تحت عنوان «الكريزانتيم والسيف». وهو عنوان يبدو مثيرا ومتناقضا على أية حال. وقد بينت دراستها هذه تباينات بين قيمة زهرة والكريزانتيم -وهي زهرة قومية ظهرت فى اليابان فى القرن الثامن قبل الميلاد- وبين مكانة الإمبراطور كرمز مقدس في العقلية اليابانية. ما يعني أن ثمة تماثل متناقض: بين عرشي زهرة الكريزانتيم والإمبراطور، وبين تناقضهما في المعنى والرمزية. فزهرة الكريزانتيم ترمز إلى الجمال والرقة، بينما يرمز السيف إلى الحرب والحدة. ومعنى ذلك أن عنوان الكتاب يذهب إلى إثارة المتناقضات فى الثقافة اليابانية من خلال التفرقة بين ثقافتين: ثقافة الإثم وثقافة الخزي. ووظيفة الأولى بلا شك ضبط الفرد والمجتمع وذلك بمزجهما بالإثم مع توقع العقاب سواء ذلك الدنيوي أو الأخروي. أما وظيفة الثانية فتضبطهما بمزجها بالخزي. وهنا المفارقة بين المتناقضات التي تبدو واضحة في تأثيرها على الشخصية اليابانية نفسها، بين الشدة واللين، وبين العصيان والإذعان للسلطة، وبين الموت بحد السيف أو استنشاق زهرة الكريزانتيم. وبالتالي فقد دفعت هذه الدراسة التي قامت بها روث الحكومة الأمريكية ذلك العام لأن توقن باستحالة استسلام المحاربين اليابانيين ما لم يصدر الإمبراطور – ذلك الرمز المقدس – أمرا بذلك، فاتخذت سبلا أخرى. ومن بين جملة الدراسات حول الثقافة اليابانية التي تباينت بين السيف وبين الزهرة، نجد في الثقافة اليابانية نزعة انتمائية شرقية عظيمة للجماعة. يقول الباحث الغربي إدوين رايشاور: «إن حب اليابانيين لتأكيد انتمائهم للجماعة قد يفوق الواقع نفسه، فهم يحاولون تفسير كل شيء في إطار هذه الانتماءات، حيث يقيس اليابانيون كل شيء ذا قيمة أو وزن بدرجة ارتباط الفرد بالجماعة وليس بالقدر الذي يتمتع به من قدرات فردية وكفاءة». أي أن اليابيانيين يميلون للانتماء لكيان الجماعة، فاليابانيون في كوارثهم شمروا سواعدهم ووضعوا أحزانهم في الحقائب للبدء بإعادة البناء. وهذا ظهر جليا في محطات الأخبار التي أظهرت صور اليابانيين وهم يقاومون الكوارث كتسونامي والزلازل بالعمل من شباب وصغار وكبار سن سوية، بتنظيم وصبر عظيمين. كل ذلك إضافة إلى تأثير تقاليد وتعاليم ديانة الشنتو العميق على الثقاقة اليابانيةالشرقية. لذا، ثمة مقاربات ودروس في أساسيات الثقافة اليابانية وبين ثقافتنا، لكم أن تقرأوها في واقعنا لتستكشفوا مدى التشابه وحجم الاختلاف. وهو ما يدفعنا إلى اكتشاف مزيد من تطلعاتنا الآن. وربما تدفعنا هذه الأمور أيضا إلى قراءة كتاب «العرب وجهة نظر يابانية» للكاتب الياباني نوبوأكي نوتوهارا الذي يقول فيه واصفا فترة حياته وتجربته في العالم العربي «رأيت كيف يغلب على سلوك الناس عدم الشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع وتجاه الوطن، ولذلك كانت ترافقني أسئلة بسيطة وصعبة: لماذا لا يستفيد العرب من تجاربهم؟ لماذا لا ينتقد العرب أخطاءهم؟ لماذا يكرر العرب الأخطاء نفسها؟ نحن نعرف أن تصحيح الأخطاء يحتاج إلى وقت قصير أو طويل. فلكل شيء وقت ولكن السؤال هو: كم يحتاج العرب من الوقت لكي يستفيدوا من تجاربهم ويصححوا أخطاءهم، ويضعوا أنفسهم على الطريق السليم؟!».