تتردَّد وتكرَّر مفردة (النخبوية) دائماً في سياق الأحاديث الإعلامية المتنوعة، ويختلف الجميع في الوصول إلى مفهوم مشترك للنخبة، نظراً إلى أن هذا المصطلح غير قابل للقياس بشكل ملموس، بل هو أقرب إلى وصف الفئة من المتميزين والمثقفين والمفكرين ورموز الاقتصاد والسياسة. ولا يمكن إنكار تأثير تلك النخب في المشهد الاجتماعي والفكري والثقافي من خلال الإسهامات الكبيرة في حركة المجتمع وفي كل المجالات، وهذا يقودنا إلى تساؤل مهم وهو: هل الخطاب السعودي هوخطاب نخبوي فقط، أم أن له امتداداً شعبياً؟ وهل هو منسجم مع المنطلقات الشرعية والفكرية لبلادنا أم أنه يتقاطع معها؟. الخطاب السعودي سابقاً كان يقتصر على أطروحات تكاد تكون نخبوية صرفة بسبب سيطرة النخبويين على المشهد الثقافي برمته، وعدم وجود منابر فكرية وإعلامية تفسح المجال للآخرين في البروز أو الظهور، ولكن مع انتشار وسائط التواصل الاجتماعي وخصوصاً (تويتر) أصبح المجال مفتوحاً والميدان يتسع للجميع خاصة من الجيل الجديد يريد إثبات وجودهم، وأن لديهم قدرات وإمكانات يستطيعون من خلالها أن يكونوا ضمن تلك القائمة من النخب ومزاحمتهم أيضاً فبرزت نُخب فكرية شبابية لديها طموحات عريضة، وهنا يمكن القول: إن ذلك ساهم وأعطى لهذا الخطاب امتداداً شعبياً كبيراً من خلال المتابعين الذين يتبعون أولئك المثقفين الشباب في اتجاهاتهم الفكرية والثقافية، وربما أدى ذلك إلى أن يكون خطابنا الثقافي في بعض الأحيان غير منسجم مع المنطلقات الشرعية والفكرية الوطنية بل ربما تقاطع معها من خلال التأجيج الذي يُحدثه ذلك الخطاب، أو من خلال الشحن الكبير والمؤثر على بعض الرموز والشخصيات الوطنية، في بعض الأحيان، وهذا ملاحظ في الآونة الأخيرة كثيراً؛ ولذلك تشكَّل لدينا شبه انقسام في خطابنا النخبوي وخصوصاً بين رموز التيارات الفكرية القديمة والجديدة من خلال الأفكار التي تُطرح من قِبل كُل تيار والصدام الكبير الذي يحصل من خلال الردود التي تحدث بين تلك الأطراف حتى أنه في بعض الأحيان تخرج تلك الردود عن مسار أدبيات الحوار وأخلاقياته من خلال اللجوء إلى أسلوب الشتم والتجريح بل والتكفير أحياناً، ولكن هل يمكننا عدّ هذا الحراك الثقافي النخبوي صحياً؟ أم تهييجياً ومصدراً للاحتقان الاجتماعي؟ ومن وجهة نظري أرى أن الاختلاف والتباين في وجهات النظر يُعد ظاهرة من الظواهر الصحية والمفيدة بشرط أن تكون ضمن الإطار الحواري الجميل وبعيداً عن الإسفاف والتجريح والدخول في النيات من خلال إصدار الأحكام التي تُطلق جزافاً على بعضنا وليس العيب أن نختلف فيما بيننا، ولكن العيب أن نخفق في اختلافاتنا إلى أن نصل إلى حد الخلاف، وأغلب الحراك النخبوي الدائر بين التيارات الفكرية الآن هو تهيجي بين الطرفين من خلال عدم قبول أي طرف بفكرة الطرف الآخر، وتمسك كل طرف بفكرته وعدم التنازل عنها، وهذا النوع من الحراك الفكري يؤجج كثيراً من عامة الناس ويؤدي إلى الاحتقان المستمر في المشهد الثقافي السعودي الحاضر الآن، وهذا ما نشاهده عبر الصحف، والفضائيات، والكتابات في مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك الردود والتعليقات، ولعل غياب ثقافة الحوار لدى بعضنا وضيق الأفق أثَّر في ذلك و ساعد على تأجيج هذا الخطاب وازدياد احتقانه كثيراً؛ مما قد يؤثر ذلك أيضاً على اللُحْمة الوطنية والتكاتف فيما بيننا، مع العلم أن أغلب أولئك النخب هم من أهل العلم والاطّلاع والمعرفة، ولا يغيب عن أذهانهم قيم الحوار وضوابطه السليمة. ولعلنا نطرح سؤالاً آخر هو: ما هو موقع النخب السعودية على خارطة مشروع الإصلاح الوطني؟ وأقصد بذلك محاربة الفساد، والبطالة، والفقر، وغيره، وهل لتلك النخب دور كبير في تقديم رؤى وأفكار لهذا المشروع؟ المجتمع السعودي بنسيجه الاجتماعي المتنوع دائماً مع فكرة الإصلاح الوطني، وتجد الأغلبية لهم دور كبير من خلال مقالاتهم وأطروحاتهم في تعزيز مشروع الإصلاح الوطني، والأغلبية متفقون على هذا المشروع الكبير الذي يُعد من أهم المشروعات التي تحتاج إلى توافق في الرؤى والأهداف لتعزيزه والنهوض به، وخصوصاً أن المطالبة بالإصلاح أصبحت مطالبة شعبية من كل أبناء الوطن، بسبب ما يعانية كثيرون من تأخر في بعض مشروعات التنمية في الوطن، ولذلك فإن أغلب النخب السعودية بأشكالها وتنوعها تجدها مع المشروع الإصلاحي الوطني، وهذا الارتباط والمطالبات بتسريع المشروع الإصلاحي الوطني ليس بمستغرب على تلك الفئات، لأن التوجه الكامل لأغلب أفراد المجتمع هو حُب الوطن، فسقف المطالبات يكون دائماً عالياً في هذا الجانب من أغلب النخب وعلى كل مستوياتها. وختاماً أقول إن مشهدنا الفكري يتشكل مجدداً وفقاً لمتغيرات وظروف جديدة ،ويشهد صعوداً لبعض الأطياف، خصوصاً الجيل الجديد، وربما يُحدث ذلك تغييراً جذرياً في بنية الخطاب الثقافي السعودي واتجاهاته وهنا نأمل أن تتحمل النخب السعودية مسؤوليتها حيال تقديم رؤى وطنية مخلصة وإصلاحية دون المساس أو التقاطع مع منطلقاته الشرعية والوطنية، كما أن الباب أصبح مفتوحاً على مصراعيه لمن يريد أن يقدم رؤى أو أطروحات بعيدة عن التزلف والتشدق والمداهنة، وإيصال الصوت الوطني المخلص بطريقة عقلانية وغير مؤججة إلى الجميع، ولم يعّد الصوت النخبوي فقط هو المؤثر في المشهد الثقافي والسياسي والاجتماعي، وإنما برزت آراء الأغلبية وصارت هي المؤثرة والفاعلة في ساحاتنا الثقافية.