إن متتالية تَشَكُّل العقل العربي السياسي لم تكن آنية الوجود وإنما عوضا عن ذلك كانت نتاج مراحل تاريخية اتسمت في غالبيتها بالتأزم حينا وبالانفراج في أحايين أُخر. فلقد لعبت جملة من الإرهاصات المتعاقبة والمتباعدة في ذات الوقت في إيقاعها الزمني دوراً محورياً وحاسماً في ذلك الأمر. ويأتي على رأس ذلك الإمبريالية العالمية التي رزحت على صدر العالمين العربي والإسلامي لعقود. نعم لقد مر الشرق بمراحل تاريخية تعرف خلالها لأنواع متفرقة من الاستعمار ولكن يظل في نظري أن التفاوت التاريخي بين كل مرحلة وأخرى بالإضافة إلى التباين بين كل نموذج مُسْتعمِر وآخر قد خلّف نوعا من (التبلد) في العقل السياسي العربي المفكر الذي لم يستطع آنذاك إيجاد تلك الحلقة المفقودة والرابطة التي تمكنه من أن يدلف لما وراء الكيانات الشكلية الماثلة أمامه ومن ثم يتمكن من إدراك الأبعاد لما ورائيات عمليات اجتياح بلاده وإعمال السيف في أقرانه من أبناء الأمة الإسلامية. فلو أخذنا مرحلة الاجتياح التتاري للمشرق العربي التي كان من تداعياتها إسقاط الخلافة العباسية ومقتل الخليفة العباسي المستعصم بالله؛ فسنجد أن العقلية المفكرة آنذاك التي سعت لتدوين أحداث تلك المرحلة لم تقدم لنا إجابات مقنعة للأسباب السياسية الكامنة وراء اجتياح هولاكو للعالم الإسلامي آنذاك. إذ إن النخب الفكرية التي تناولت التفاعلات المرحلية لتلك الحقبة قد اكتفت فقط بإعطائنا خطوطاً عريضة مفادها: أن التتار قد هاجموا العوالم المعروفة ومارسوا أنواعا من الوحشية والتدمير شبه الممنهج للحضارات القائمة آنذاك التي كانت الحواضر الإسلامية إحدى ضحاياها كنتاج لطبيعة سيكولوجية تمتع بها المغول اتسمت بالعنف والإغراق في الدموية والكره لكل ما هو رمز للتمدن والتحضر. ولو جربنا أن نعالج في ذهنيتنا المرحلية تساؤلاً مفاده أَوَلَمْ يسلم أولئك التتار ويحصل قادتهم على مباركة الخليفة العباسي في مراحل سابقة لإسقاط الخلافة؟ فإن الإجابة التلقائية لمثل هذا التساؤل سنجدها في أمهات كتب التراث التي أرّخت لتلك المرحلة وجميعها تكاد تجمع على إجابة موحدة وهي تلك التي زود بها شيخ الإسلام ابن تيمية أبناء الأمة الإسلامية آنذاك وتدور حول أن: التتار قوم قد أظهروا الإسلام وأبطنوا النفاق والكفر فهم يشربون الخمر رغم ادعاء إسلامهم ويستلقون في شوارع بغداد ملحقين الأذى بكل من يمر بالطريق من المسلمين، وأنه وجب قتلهم على حين غرة فهم أعداء للدين والأمة وقتلهم حلال ويعد تقرباً إلى الله. إذ نستطيع أن نستشف من خلال هذا العرض الموجز الذي قدمته آنفا أن العقلية السياسية العربية قد ظلت سطحية في التعاطي مع المجمل الحدثي السياسي آنذاك وحتى على مستوى النخب المفكرة التي اكتفت (بالرصد فقط وبتقديم تفسيرات هي أقرب للسطحية وللسذاجة منها إلى الفكر السياسي العميق) في إدراك الأبعاد السياسية والاقتصادية لهذا الاجتياح الرهيب الذي قضى على حاضرة الإسلام وإزالة حاضرة قائمة لقرون بين يوم وليلة. بل وستجدنا قد ركنا لمقاربة إسلامية من ابن تيمية هي أقرب للانطباع الفردي منها للفكر الناقد بل وهي أبعد ما تكون عن الحقيقة الواقعية والعمق السببي للوجود المغولي في عالمنا الإسلامي. ثم سنجد عالمنا العربي ينتقل لمرحلة تاريخية أخرى وأعني بها مرحلة الحروب الصليبية. تلك الحروب المتتالية التي شنتها أوروبا على العالم العربي واتخذت الغطاء الديني سترة لها، سنجد أن من تصدوا لرصدها من النخب المفكرة آنذاك لم يستطيعوا أيضا أن ينفذوا إلى ما ورائيات الحدث الكائن آنذاك الذي امتد أثره لزهاء 190 عاما. إذ كانت أغلب أدبيات تلك المرحلة تقدم لنا تفسيرا سياسيا واحدا وهو أن الهدف الأوحد والمُخْرَج النهائي لهذه السلسلة من الحروب المتتالية والضروس كان بهدف واحد فقط ألا وهو احتلال بيت المقدس. إن مثل هذه الحلول والإجابات البسيطة التي تتسم بالسذاجة في الرصد وبالسطحية في التحليل والمعالجة تقدم لنا خير شاهد إلى أنه بانتهاء الحروب الصليبية وتحديدا إلى عام 1291م كان الفكر السياسي العربي لا يزال في مرحلة الصبا وربما كان مغيبا أو يعيش في مرحلة تيه آخر.