تتميز المجتمعات المتقدمة والمتحضرة بأنها تجاوزت مراحل عصيبة من التمييز العنصري والعرقي، حتى وصلت لما هي عليه من مستوى عال في مسألة تقبل الطرف الآخر المختلف عرقيا أو دينيا أو مذهبيا، أو ينتمي إلى أي مجموعة إثنية أخرى، هذه الثقافة السائدة ساهمت بشكل كبير في تقدم المجتمعات في شتى جوانب الحياة، لأنها تخلصت بشكل كبير من عائق رئيس للسلم الاجتماعي والتعايش وهو (التمييز) بشتى أنواعه، هذه المجتمعات لم تصل لما وصلت إليه فجأة، بل وصلت إليه بعد نضال وحراك مدني مستمر دفعت غالي الأثمان للوصول إليه. السود في أمريكا عاشوا لسنوات طويلة تحت تمييز عرقي واضطهاد ليس له مثيل لكن بالحراك المدني وتضافرهم مع الواعين من البيض، استطاعوا تجاوز هذه الحالة العنصرية المقززة، هذا الإنجاز جاء نتيجة حراك مستمر، حتى عاشوا بكرامة وانتزعوا حقوقهم المدنية والسياسية وانخرطوا اجتماعيا مع الجماعات الإثنية الأخرى. مبدأ التعايش السلمي من المفترض أن يكون مبدأ إنسانيا وفطريا في الإنسان، وتعاليم ديننا الحنيف وبقية الأديان السماوية توصينا بالمحبة والتسامح والعيش المشترك بين بني البشر رغم الاختلافات والآراء والمعتقدات المتعددة، ولأهمية هذا المبدأ، كان أول مقال نشرته في حياتي بعنوان «تعايش وانفتاح خارج الوطن»، جاء هذا المقال بعد وجودي في أمريكا لتسعة أشهر، كتبت فيه عن إيجابية وجود الطلبة المبتعثين من شتى أنحاء المملكة في مدينة أو جامعة واحدة ببلاد الغربة، فهي فرصة حسنة لشباب الوطن للانفتاح على مكونات المجتمع السعودي المتعددة، حيث يكون الشاب قد عاش منغلقا بشكل عام على محيطه الاجتماعي المحدود، وتنحصر معارفه على إطار ضيق من مكونات الوطن، هذا التنوع والتعدد الذي يكون عليه المبتعثون في بلاد الغربة، هو فرصة ثمينة لتكريس ثقافة التعايش وتعزيز الوحدة الوطنية. شهد النادي السعودي بجامعة بورتلاند في ولاية أورجن الأمريكية واحدة من أضخم الانتخابات على مستوى الأندية، بمشاركة ما يقارب 350 طالبا سعوديا في التصويت، وقد عملت شخصيا كمسؤول إعلامي في الحملة الانتخابية لطالبة سعودية (سنية) مرشحة للرئاسة وطالب آخر (شيعي) لمنصب نائب الرئيس، واعذروني هنا على هذا التصنيف المذهبي الذي لا أطيقه لإيصال فكرة المقال فقط لا غير، كانت هذه التجربة الانتخابية فريدة ومميزة عن أي انتخابات أخرى شاركت فيها وأكثر تحديا من غيرها، ليس لأن المرشحين الذين أدعمهم أقل كفاءة من منافسيهم، بل على العكس، لم يكن هناك وجه للمقارنة أصلا، لا من ناحية الكفاءة الفردية ولا من ناحية البرامج الانتخابية والرؤيا والأهداف التي كان يستند عليها المرشحون، سلاح رئيس كان يمتلكه المنافس وهو اللعب على الوتر الطائفي لجذب الأصوات في صالحه، واستثارة النزعات الجاهلية برفض تولي امرأة لمنصب الرئيس؟!». بغض النظر عن نتائج الانتخابات التي لم تعلن إلى الآن، فقد لقي المرشحون الآخرون تجاوبا كبيرا من الناخبين الذين صوتوا بناء على أبعاد طائفية، مما جعل المنافسة شديدة بين مخيمين انتخابيين، أحدهما اعتمد على اللعبة الطائفية واستثار الطلبة غير مكترث للسلم الاجتماعي والتعايش بين أبناء الوطن، والآخر يشمل شبابا متنوعين لم يستهوِهم الصراع الطائفي واجتمعوا بمختلف مناطقهم ومذاهبهم وأجناسهم رغبة في العمل الجاد وتقديم كل ما يشرف الوطن ويعزز ترابط أبنائه، وهذا الجمع من الشباب والشابات، لقوا وسيلاقون كثيرا من الانتقادات والمضايقات ممن لا يريد أن يرى أبناء الوطن متعايشين بمختلف أطيافهم، وسيتلقون التهم جزافا من الطائفيين، فهذا ثمن السعي في طريق التعايش ونبذ الاصطفاف الطائفي والعنصري حمانا الله من شروره.