قبل أن أبدأ في الموضوع أودّ أن أؤكد هنا أنني لا يمكن، بل ولا يُعقل، ولم يُعرف عني، أنني أدعو إلى إهمال السنة النبوية أو طرحها جانباً؛ خاصة أصح الكتب بعد كتاب الله صحيحي البخاري ومسلم، لأن ذلك يعني بالضرورة أنني أنسف شريعة الإسلام نسفاً تاماً. غير أن هناك بعض الأحاديث التي أرى أنها وإن صحت سنداً لا أجدها في تقديري وحسب ما استجدّ من تجارب طبية قطعية لا تقبل الجدل، يُمكن أن تصح متناً؛ أو أنها -كما ذهب بعض العلماء- قد تكون من باب اجتهاد الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- في غير أمور الوحي، وذلك كحادثة تأبير النخل وقوله -صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه طلحة بن عبيدالله وصححه الألباني: (إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظناً، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله).. أو أنها قد تكون أحاديث خاصة بحادثة معينة ولأشخاص معينين كما هو الحال في رضاع الكبير وترجيح جمهور العلماء رأي أمَّ سلمةَ زوج النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كانت تقول: (أبى سائرُ أزواجِ النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أن يُدخِلنَ عليهنَّ أحداً بتلك الرضاعةِ. وقلن لعائشةَ: واللهِ ما نرى هذا إلا رُخصةً أرخَصها رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- لسالمٍ خاصَّةً فما هو بداخلٍ علينا أحدٌ بهذه الرضاعةِ، ولا رائَيْنا) رواه مسلم. ومن هذه الأحاديث التي أرى أنها لا تثبت ك(تشريع) عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أحاديث التداوي ببول الإبل. سواء كان ذلك لنكارة في المتن أو كما يرجح بعض العلماء أنها (ظنٌ) منه كبشر في غير ما جاءه من الوحي؛ أو لأنها قد تكون رخصة خاصة لحادثة خاصة، هذه الاحتمالات تصبّ في النتيجة ذاتها. ولعل كثيرين لا يعلمون أن مسألة التداوي ببول الإبل هي قضية محض خلافية بين فقهاء المذاهب، اختلف حولها السلف والخلف، ويأتي في مقدمة من حرّم أبوال الإبل وعدّها نجسة الإمامان الشافعي وأبوحنيفة رحمهما الله؛ وهما عالمان مجتهدان لا يمكن لأحد أن يُقلل من مُقامهما. يقول الطحاوي –رحمه الله– في كتابه (شرح معاني الآثار): (فنظرنا في ذلك، فإذا لحوم بني آدم، كلٌ قد أجمع أنها لحوم طاهرة وأن أبوالهم حرام نجسة، فكانت أبوالهم باتفاقهم محكوماً لها بحكم دمائهم، لا بحكم لحومهم. فالنظر على ذلك أن تكون كذلك أبوال الإبل، يُحكم لها بحكم دمائها، لا بحكم لحومها، فثبت بما ذكرنا أن أبوال الإبل نجسة. فهذا هو النظر، وهو قول أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- وقد اختلف المتقدمون في ذلك). كما جاء في (المبسوط للسرخسي) وهو أحد الكتب المعتمدة في الفقه الحنفي مبرراً عدم الأخذ بحديث أنس في جواز شرب البول ما نصه: (فأما حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- فقد ذكر قتادة عن أنس -رضي الله تعالى عنه- أنه رخّص لهم في شرب ألبان الإبل ولم يذكر الأبوال، وإنما ذكره في حديث حميد عن أنس -رضي الله تعالى عنهما- والحديث حكاية حال فإذا دار بين أن يكون حجة أو لا يكون حجة سقط الاحتجاج به. ثم نقول خصهم رسول الله بذلك -(أي العرنيين المرخص لهم)- لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه ولا يوجد مثله في زماننا؛ وهو كما خص الزبير -رضي الله تعالى عنه- بلبس الحرير لحكة كانت به وهي مجاز عن القمل فإنه كان كثير القمل. أو لأنهم كانوا كفاراً في علم الله تعالى ورسوله علم من طريق الوحي أنهم يموتون على الردة ولا يبعد أن يكون شفاء الكافر في النجس). ويقول ابن حجر العسقلاني: (وذهب الشافعي والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره). والنجاسة والحرام خبيثان؛ يقول الشوكاني: (ظاهره تحريم التداوي بكل خبيث، والتفسير بالسم مدرج لا حجة فيه، ولا ريب أن الحرام والنجس خبيثان). وطالما أن الطب والأبحاث أثبتت اليوم أن بول الحيوانات المأكولة وغير المأكولة تحتوي على كميات من (السموم) يتخلص منها الجسم من خلال عملية التبول كما يقول أهل الاختصاص (الأطباء)، فإن هذا يؤكد أن ما ذهب إليه الأمام الشافعي والإمام أبوحنيفة –رحمهما الله– كان الأقرب إلى الصواب. كما أن شيخ الأزهر تحدث عن قضية التداوي ببول الإبل وجاء في الخبر: (أكد الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر على ضرورة توعية المواطنين بطرق العلاج الصحيحة من خلال وسائل الإعلام، وذلك لظهور طرق علاج فى الفترة الأخيرة بعيدة كل البعد عن المجال الطبى). وأضاف الطيب خلال كلمته في افتتاح المؤتمر الطبي لكلية طب الأزهر، الذي يُعقد تحت عنوان "الالتهابات الفيروسية الكبدية"، أنه ظهرت في الفترة الأخيرة طرق علاج للالتهابات الكبدية عن طريق شرب بول الإبل، مؤكداً أن هذا حدث لأحد أقاربه، ولكن هذه الطرق غير علمية تؤدي إلى إصابة مستخدميها بأمراض أخرى). أما القول إن ما ثبت سنده لا يجوز التشكيك فيه؛ وبالتالي يجب قبوله بالتسليم المطلق، خاصة ما ورد في الصحيحين البخاري ومسلم، فهذا هو الشيخ محمد العثيمين -رحمه الله- شكك في حديث (الجسّاسة) المشهور، رغم أنه ورد في صحيح مسلم. يقول بالنص رحمه الله: (قولنا فيه –أي في حديث الجساسة– أن النفس لا تطمئن إلى صحته من النبي لما في سياق متنه من النكارة؛ وقد أنكره الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره إنكاراً عظيماً لأن سياقه يبعد أن يكون من كلام النبي) انتهى. وهذا هو الرابط بصوته رحمه الله والسؤال الذي يبرز بقوة على بساط البحث: هل لو كان رَدُّ الحديث الوارد في صحيح مسلم يُعدّ (طامة) كما يقول البعض، سيرده أو يشكك في صحة متنه عالمان جليلان مثل الشيخ العثيمين والشيخ محمد رشيد رضا؟ أما من يقول إن هناك أبحاثاً علمية استُخرجت من بول الإبل ما يمكن أن يُستفاد منه في صناعة بعض الأدوية، فهذا مبرر لا يكفي؛ فالبنسلين -كما هو معروف- يُستخرج من عفن الخبز، فهل يعني ذلك جواز التداوي بعفن الخبز؟ بقي أن أقول: ورغم كل حججي هذه التي أوردت هنا، والتي أرى أنها مُقنعة، فإنني أؤكد لكل من رأى رأياً مغايراً لما ذكرت آنفاً، فأنا على أتم الاستعداد للتراجع عمّا أقول إذا اقتنعت به؛ فأنا أبحث عن الصواب لا التعصب للرأي؛ فرأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب؛ والقضية كما ترون خلافية. هذا ما لزم توضيحه حول التغريدات التي جاءت في حسابي في موقع (تويتر) على الإنترنت، وأثار حولها البعض جَلَبة وصخباً. إلى اللقاء..