* هناك بعض الأشربة والأطعمة التي تحتوي على نسبة قليلة جدا من الكحول، مثل : الخبز، علما أنك لو أكلت منه الكثير لا تسكر، فهل يجوز تناولها؟ وشكرا لكم. الكحول مادة مسكرة أو مخدرة، وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن نجاسة الخمر نجاسة حسية، ويلحق الكحول بها في ذلك، واستدلوا بقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون»(المائدة: 90)، وقالوا: الرجس، هو: النجس. وذهب بعض أهل العلم إلى أن طهارة الخمر طهارة حسية مع بقاء نجاستها المعنوية؛ لأن الرجس المقصود في الآية السابقة هو الرجس العملي المقتضي للتحريم، وليس الرجس العيني الذاتي المقتضي للنجاسة، وقالوا: من المعلوم أن الميسر والأنصاب والأزلام الواردة في الآية ليست نجسة نجاسة حسية، فإذا كانت نجاستها معنوية وليست حسية فالخمر كذلك؛ لأنه من عمل الشيطان، وقد قرن بهذه الثلاثة، ولأن الأصل في الأشياء الطهارة حتى يوجد الدليل على النجاسة، ولا دليل هنا، وكذلك قالوا: إنه لما نزل تحريم الخمر أراقها المسلمون في الأسواق، ولو كانت نجسة ما جازت إراقتها في الأسواق؛ لأن تلويث الأسواق بالنجاسات محرم لا يجوز، وهذا القول هو الأرجح إن شاء الله. وعلى هذا، فالكحول ليست نجسة العين، وإن كانت خبيثة من الناحية المعنوية، بمعنى أنها لو وجدت على ثوب الإنسان أو بدنه فلا يجب عليه التنزه عنها كما يتنزه عن المواد النجسة. وبقيت مسألة، وهي: وجود الكحول في المأكول والمشروب، فمن المعلوم أن الكحول مادة مسكرة أو مخدرة، وبالتالي فإذا وجدت في الأكل أو الشرب، وكانت مؤثرة فيه بمعنى أنه يترتب على التناول إسكار فالتناول في هذه الحالة حرام قطعا؛ لأن علة تحريم الخمر، هي: الإسكار، وقد وجدت هنا، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما. أما إذا كانت مادة الكحول الموجودة في المأكول أو المشروب قليلة ويسيرة، ولا يظهر أثرها، واستهلكت في المشروب ونحوه، فالصحيح أن هذه الكمية اليسيرة من الكحول لا أثر لها في تحريم هذا الطعام أو الشراب، فهو مثل النجاسة المستهلكة في الماء، فعلى القول الصحيح إن شاء الله إن هذه النجاسة ما لم يظهر أثرها في الماء، في طعمه، أو لونه، أو ريحه، فالماء باق على طهوريته قليلا كان أو كثيرا، وفي (صحيح البخاري، ك72، ب12) تعليقا قال أبو الدرداء في المري: ذبح الخمر النينان والشمس»، والنينان: جمع نون، وهو: الحوت، والمري: أكلة تتخذ من السمك المملح، يوضع في الخمر ثم يعرض للشمس فيتغير طعمه عن طعم الخمر، ومعنى قول أبي الدرداء هذا: أن الحوت لما ملح ووضع في الشمس أذهب الخمر فصار حلالا، ومما يدل على عدم الحرمة هنا: أن الخمر إنما حرمت لوصف الإسكار الموجود فيها، فإذا انتفى هذا الوصف انتفت الحرمة. ومما يشار إليه هنا أن البعض يظن أن المخلوط بالخمر حرام مطلقا، سواء قلت نسبة الخمر بحيث لا تؤثر في المخلوط أو كثرت، وظنوا أن ذلك هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» رواه أحمد (5648) واللفظ له، وابن ماجة (3392)، والدارقطني (4/254)، وهو صحيح كما في الإرواء (2375). فقالوا: هذا فيه قليل من الخمر الذي يسكر كثيره فيكون حراما، وقد أجاب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مجمع فتاويه (4/260) عن هذا الفهم، فقال: يقال هذا القليل من الخمر استهلك في غيره فلم يكن له أثر وصفي ولا حكمي، فبقي الحكم لما غلبه في الوصف، وأما حديث «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (سبق تخريجه) فمعناه: أنه إذا كان الشراب إن أكثر منه الشارب سكر، وإن قلل لم يسكر، فإن القليل منه يكون حراما؛ لأن تناول القليل وإن لم يسكر ذريعة إلى تناول الكثير، ويوضح ذلك حديث عائشة رضي الله عنها: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام، ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام» أخرجه أبو داود (3687)، والترمذي (1866)، وأحمد (24992)، وهو صحيح كما في الإرواء (2376)، والفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا. ومعنى الحديث: أنه إذا وجد شراب لا يسكر منه إلا الفرق، فإن ملء الكف منه حرام، فهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام» (سبق تخريجه) أ.ه. ومع ذلك، فالأولى فيما يظهر لي والله أعلم أن يتجنب الإنسان تناول الأطعمة والأشربة المحتوية على هذه المواد المسكرة المستهلكة في الطعام والشراب ما لم يحتج إلى ذلك ، لكن هذا من باب الورع لا التحريم، والله أعلم. * مختص في الفقه الطبي جامعة الملك خالد